عبادة العجل في بني إسرائيل:
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ ( 148 ) وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ( 149 ) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ( 150 ) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ( 151 )
عاشر بنو إسرائيل أهل مصر زمانا فأثروا فيهم بأخلاقهم ، وإن الضلال يعدى كما تعدى الأمراض البدنية ، وقد سرت إليهم عدوى تقديس العجل ، وعبادته ، كما انحلت عقيدة الوحدانية منهم ، وقد أكدها موسى – كليم عليه السلام – ولكنهم لما رأوا قوما عكفوا على أصنام لهم طلبوا من نبيهم موسى – عليه السلام – إلها كما لهم آلهة .
وقد ذكر الله تعالى عبادتهم العجل في آيات كثيرة ، وكان يذكرها في أكثر الأحيان بالإشارة العابرة ، بيانا لضلالهم ، وفي هذه يذكرها – سبحانه وتعالى – ببعض التفصيل ، ويذكر وقتها وهو أنه كان ، وقد غاب موسى لتلقي الألواح ، ومناجاة ربه ، فجاءهم ، وقد اتخذوا العجل ، صنعوه على صناعة محكمة وعبدوه ، صنعوه بحليهم ، وجعلوه على صورة جسد عجل ، ومهارتهم في الصناعة التي اشتهرت بها مصرفي ذلك الإبان ، وضعوه في وضع إذا مرت الريح في موضعه من الخلف صار له صوت يشبه صوت خوار البقر وادعوه إلها ، ولنتل الآيات الكريمة في ذلك:{ واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسدا له خوار} .
{ واتخذ قوم موسى} ، أي فعل بعضهم ذلك وسكت عنه سائرهم ، فنسب الفعل إلى كلهم ، فقد كان فيهم هارون ، وما كان ليرضى ولم يسكت ، حتى استضعفوه وكادوا يقتلونه وفيهم صفوة من الفضلاء ، كان منهم النقباء .
وقوله:{ من حليهم} ، أي صنعوا من حليهم ، جمعوها وصهروها ، وصنعوها على شكل عجل ، يعبدونه كما يعبده المصريون و{ جسدا} أي جسما ،{ له خوار} ، أي صوت كصوت خوار البقر ، لما مهروا في صناعته وفي وضعه ، والجسد لم يكن فيه حياة ، ككل الأجسام ، وقد فهم بعض الناس من كلمة جسد أنه كان فيه حياة ، والحقيقة أن كلمة جسد تكون بمعنى جسم في كل دلالاتها ، وسواء أكان فيها حياة أم لم تكن ، وإن استعمال جسد في التعبير عن الجسم كثير في القرآن ، ولقد قال الأصفهاني في مفرداته:( والجسد كالجسم ، ولكنه أخص ، وقال الخليل:لا يقال الجسد لغير الإنسان من خلق الأرض ونحوه ، وأيضا فإن الجسد ما له لون ، والجسم يقال لما لا لون له كالماء والهواء ، وقوله عز وجل:{ وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام وما كانوا خالدين ( 8 )} ( الأنبياء ) . . . . وقال:{. . . . . . . . . . . . عجلا جسدا له خوار . . . . . . . . ( 88 )} ( طه ) .
والخلاصة أن الجسد بمعنى الجسم ، وأنه لا يشترط في الجسد أن تكون فيه حياة ، وأنه يطلق على الجماد . وقوله تعالى:{ وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام . . . . . . . . . . . ( 8 )} ( الأنبياء ) ، أي ما جعلناهم جمادا لا يحتاج غذاء ، بل جعلناهم أحياء يأكلون الطعام ، ويمشون في الأسواق . ولقد بين الله تعالى بطلان عبادة العجل وبيان انه ليس بحي فقال تعالت كلماته:{ ألم يروا أنه لا يكلمهم} ، وفي آية أخرى في غير هذه السورة ، فقال تعالى في سورة طه:{ أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا ( 89 )} .
وإن ذلك دليل على أنه لا حياة في هذا الجسد ، وإنما هو جماد قد ذكر القرآن أصله وهو الحلي ،{ اتخذوه وكانوا ظالمين} فقد ظلموا الحق بعملهم على خلاف التوحيد ، وظلموا أنفسهم بعبادة ما صنعوه بأيديهم ، وظلموا موسى الذي أنقذهم من طغيان فرعون ، وكذبوا آيات الله تعالى الدالة على وحدانيته وأفسدوا تفكيرهم الذي هدى موسى إليه .
ولقد كان من المفسرين أو أكثرهم من أخرجوا كل بيان للقرآن على أنه من خوارق العادة ، فزعموا أن العجل كان جسدا حيا ، وسرت إليه الحياة من أن السامري الذي صنعه ، أخذ قبضة من أثر فرس جبريل ، ووضعها في صناعته ، فجعلته حيا له خوار ، وزعموا أن ذلك يؤخذ من قول السامري الذي حكاه القرآن عنه إذ قال:{. . . . . . . . . فما خطبك يا سامري( 95 ) قال بصرت بما لم يبصروا به فقبضت قبضة من أثر الرسول فنبذتها وكذلك سولت لي نفسي ( 96 )} ( طه ) ، فزعموا أن قول السامري فقبضت قبضة من أثر الرسول:أي جبريل . قبض السامري قبضة من أثر فرسه فوضعها في صناعته .
وهذا تأويل بعيد عن الحقيقة ، وعن مدلول الألفاظ .
أولا – لأن الرسول ، ( أل ) فيه للعهد ، ولا بد من رسول مذكور في السياق أو معهود حاضر في الذهن وهو موسى ، وأثره هو شرعه ، ونبذه إهماله وتركه ، وهو التوحيد .
ثانيا – أنه اعتبر ذلك مما سولت به نفسه الشيطانية .
ثالثا – أن جبريل ما كان طريق خطاب الله لموسى ، إذ قال:{ وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا . . . . . . . . . . . ( 51 )} ( الشورى ) فكان كلام الله تعالى لموسى من وراء حجاب كما قال تعالى:{. . . . . . . . . . . . . . وكلم الله موسى تكليما ( 164 )} ( النساء ) ، وإن قوله تعالى عن السامري أنه قال:{. . . . . . . . . . بصرت بما لم يبصروا به . . . . . . . . . . ( 96 )} ( طه ) أي في صناعة الحلى التي لم يكن غيره ذا بصر بها .
وأخيرا إنه لا حاجة إلى هذا التكلف والإغراب والتقدير .
وتخريج الآية على ما بينا ابتداء هو المعقول الذي لا يحتاج إلى تأويل به ، ولا إلى تقدير كلام مطوي بلا دليل .
وخلاصته أن السامري اتخذ من الحلي شكل عجل ، وبمهارة الصناعة وتمكين الرياح من أن تدخل منافذ فيه كان له صوت يشبه صوت البقر وهو الخوار ، فعبدوه ، وقبض قبضة من أثر موسى وهو التوحيد فنبذه وأهمله .