/م148
وفي الآية الحاضرة يقول القرآن الكريم أوّلا: إنّ قوم موسى( عليه السلام ) بعد ذهابه إلى ميقات ربّه صنعوا من حليّهم عجلا ،وكان مجرّد تمثال لا روح فيه ،ولكنّه كان له صوت كصوتِ البقر ،واختاروه معبوداً لهم: ( واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلا جسداً له خوار ) .
ومع أنّ هذا العمل ( أي صنع العجل من الحلي ) صدر من السامريّ ( كما تشهد بذلك آيات سورة طه ) إلاّ أنّه مع ذلك نسب هذا العمل إلى بني إسرائيل لأنّ كثيراً منهم ساعد السامريّ في هذا العمل وعاضده ،وبذلك كانوا شركاء في جريمته ،في حين رضي بفعله جماعة أكبر منهم .
وظاهر هذه الآية وإن كان يفيدفي بدء النظرأنّ جميع قوم موسى شاركوا في هذا العمل ،إلاّ أنّه بالتوجه إلى الآية ( 159 ) من هذه السورة ،التي تقول: ( ومن قوم موسى أُمّة يهدون بالحقّ وبه يعدلون ) يستفاد أنّ المراد من الآية المبحوثة هنا ليس كلّهم ،بل أكثرية عظيمة منهم سلكوا هذا السبيل ،وذلك بشهادة الآيات القادمة التي تعكس عجز هارون عن مواجهتها وصرفها عن ذلك .
كيف كان للعجل الذهبي خوار ؟
و«الخوار » هو الصوت الخاص الذي يصدر من البقر أو العجل ،وقد ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ السامري بسبب ما كان عنده من معلومات وضع أنابيب خاصّة في باطن صدر العجل الذهبي ،كان يخرج منها هواء مضغوط فيصدر صوت من فم ذلك العجل الذهبيّ شبيه بصوت البقر .
ويقول آخرون: كان العجل قد وضع في مسير الريح بحيث كان يسمَع منه صوتٌ على أثر مرور الريح على فمه الذي كان مصنوعاً بِهيئة هندسية خاصّة .
أمّا ما ذهب إليه جماعة من المفسّرين من أن السامريّ أخذ شيئاً من تراب من موضع قدم جبرئيل وصبّه في العجل فصار كائناً حياً ،وأخذ يخور خواراً طبيعياً فلا شاهد عليه في آيات القرآن الكريم ،كما سيأتي بإذن الله في تفسير آيات سورة طه .
وكلمة «جسداً » شاهد على أن ذلك العجل لم يكن حيواناً حياً ،لأنّ القرآن يستعمل هذه اللفظة في جميع الموارد في القرآن الكريم بمعنى الجسم المجرّد من الحياة والروح{[1469]} .
وبغض النظر عن جميع هذه الأُمور يبعد أن يكون الله سبحانه قد أعطى الرجلَ المنافق ( مثل السامريّ ) مثل تلك القدرة التي يستطيع بها أن يأتي بشيء يُشبه معجزة النّبي موسى( عليه السلام ) ،ويحيي جسماً ميتاً ،ويأتي بعمل يوجب ضلال الناس حتماً ولا يعرفون وجه بطلانه وفساده .
أمّا لو كان العجل بصورة تمثال ذهبي كانت أدلة بطلانه واضحة عندهم ،وكان من الممكن أن يكون وسيلة لاختبار الأشخاص لا شيء آخر .
والنقطة الأُخرى التي يجب الانتباه إليها ،هي أنّ السامري كان يعرف أن قوم موسى( عليه السلام ) قد عانوا سنين عديدة من الحرمان ،مضافاً إلى أنّهم كانت تغلب عليهم روح الماديةكما هو الحال في أجيالهم في العصر الحاضرويولون الحليّ والذهب احتراماً خاصّاً ،لهذا صنع عجلا من ذهب حتى يستقطب إليه اهتمام بني إسرائيل من عبيد الثروة .
أمّا أن هذا الشعب الفقير المحروم من أين كان له كل ذلك الذهب والفضة ؟فقد جاء في الرّوايات أن نساء بني إسرائيل كنّ قد استعرن من الفرعونيين كمية كبيرة من الحليّ والذهب والفضّة لإِقامة أحد أعيادهن ،ثمّ حدثت مسألة الغرق وهلاك آل فرعون ،فبقيت تلك الحلي عند بني إسرائيل{[1470]} .
ثمّ يقول القرآن الكريم معاتباً وموبّخاً: ألم ير بنو إسرائيل أن هذا العجل لا يتكلم معهم ولا يهديهم لشيء ،فكيف يعبدونه ؟( ألم يرو أنّه لا يكلمهم ولا يهديهم سبيلا ) .
يعني أن المعبود الحقيقي هو من يعرفعلى الأقلالحسن والقبيح ،وتكون له القدرة على هداية أتباعه ،ويتحدث إلى عبدته ويهديهم سواء السبيل ،ويعرّفهم على طريقة العبادة .
وأساساً كيف يسمح العقل البشري بأن يعبد الإنسان شيئاً ميتاً صنعه وسوّاه بيده ،حتى لو استطاعافتراضاًأن يبدّل الحلّي إلى عجل واقعي فإنّه لا يليق به أن يعبده ،لأنّه عجل يضرب ببلادته المثل .
إنّهم في الحقيقة ظلموا بهذا العمل أنفسهم ،لهذا يقول في ختام الآية: ( اتخذوه وكانوا ظالمين ) .