/م148
قال تعالى:
{ واتّخذ قوم موسى من بعده من حليّهم عجلا جسدا له خوار} الحلي بالضم والتشديد جمع حلي بالفتح والتخفيف فهو كثديّ جمعا لثدي .وهذا الحلي استعاره نساء بني إسرائيل من نساء المصريين قبل خروجهم من مصر فملكوه بإذن الله تعالى ، والعجل ولد البقرة سواء كانت من العراب أو الجواميس فهو كالحوار لولد الناقة والمهر لولد الفرس والحمل لولد الشاة والجدي لولد العنز الخ .والجسد الجثة وبدن الإنسان حقيقة ويطلق على غيره مجازا والأحمر كالذهب والزعفران والدم الجاف وقال في لسان العرب:الجسد جسم الإنسان ولا يقال لغيره من الأجسام المغتذية ، ولا يقال لغير الإنسان جسد من خلق الأرض والجسد البدن تقول منه تجسد كما تقول من الجسم تجسم .
ابن سيده:وقد يقال للملائكة والجن جسد .غيره:وكل خلق لا يأكل ولا يشرب من نحو الملائكة والجن مما يعقل فهو جسد .وكان عجل بني إسرائيل جسدا يصيح لا يأكل ولا يشرب ، وكذا طبيعة الجن ، قال عز وجل:{ فأخرج لهم عجلا جسدا له خوار} [ طه:88]"جسدا "بدل من عجل لأن العجل هنا هو الجسد ، وإن شئت حملته على الحذف أي ذا جسد ، وقوله:{ له خوار} يجوز أن تكون الهاء راجعة إلى العجل وأن تكون راجعة إلى الجسد ، وجمعه أجساد .وقال بعضهم في قوله:{ عجلا جسدا} قال أحمر من ذهب .وقال أبو إسحاق في تفسير الآية:الجسد هو الذي لا يعقل ولا يميز إنما معنى الجسد معنى الجثة فقط ، وقال في قوله:{ وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام} [ الأنبياء:8] قال جسد واحد يعني على جماعة ، قال ومعناه وما جعلناهم ذوي أجساد إلا ليأكلوا الطعام وذلك أنهم قالوا{ ما لهذا الرسول يأكل الطعام} [ الفرقان:7] فاعلموا أن الرسل أجمعين يأكلون الطعام وأنهم يموتون .
المبرد وثعلب:العرب إذا جاءت بين كلامين بجحدين كان الكلام إخبارا قالا:ومعنى الآية إنما جعلناهم جسدا ليأكلوا قالا:ومثله في الكلام:ما سمعت منك وما أقبل منك معناه إنما سمعت منك لأقبل منك قالا:وإن كان الجحد في أول الكلام كان الكلام مجحودا جحدا حقيقيا قالا:وهو كقولك:ما زيد بخارج .قال الأزهري:جعل الليث قول الله عز وجل:{ وما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام} كالملائكة قال:وهو غلط ومعناه الإخبار كما قال النحويون أي جعلناهم جسدا ليأكلوا الطعام قال:وهذا يدل على أن ذوي الأجساد يأكلون الطعام وأن الملائكة روحانيون لا يأكلون الطعام وليسوا جسدا فإن ذوي الأجساد يأكلون الطعام .1ه وقولهم معناه الإخبار أي الإثبات .
والخوار صوت البقر وهو بضم أوله كأمثاله من أسماء الأصوات:رغاء الإبل وثغاء الغنم ويعار المعز ومواء الهر ونباح الكلب الخ .
وعلم من القصة في سورة طه أن السامري هو الذي أخذ منهم ما حملوه من أوزار زينة قوم فرعون فألقاها في النار فصاغ لهم منها عجلا أي تمثالا له صورة العجل وبدنه وصوته وإنما نسب ذلك هنا إليهم لأنه عمل برأي جمهورهم الذين طلبوا أن يكون لهم آلهة ، قال الحافظ ابن كثير:وقد اختلف المفسرون في ذلك العجل هل صار لحما ودما له خوار أو استمر على كونه من ذهب إلا أنه يدخل فيه الهواء فيصوت كالبقر ؟ على قولين والله أعلم اه .روي القول الأول عن قتادة وأخرج ابن أبي حاتم عن الضحاك أنه خار خورة واحدة ولم يثن .فمن قال إنه حلت فيه الحياة عللوه بأن السامري رأى جبريل حين جاوز ببني إسرائيل البحر وفي رواية عند نزوله على موسى عليهما السلام راكبا فرسا ما وطئ بها أرضا إلا حلت فيها الحياة واخضر النبات فأخذ من أثرها قبضة فنبذها في جوف تمثال العجل فصار حيا له خوار وفسروا بهذا ما حكاه الله تعالى عنه في سورة طه وسيأتي بيانه في تفسيرها .
ولكن قال بعض هؤلاء إن خواره كان بتأثير دخول الريح في جوفه وخروجها من فيه كقول الآخرين الذين قالوا إنه لم يكن حيا ، والروايات في حياته لا يصح منها شيء ولذلك وقف الحافظ ابن كثير فلم يرجح أحد القولين على الآخر ، وفي تفسير القصة من سورة طه روايات كثيرة من خرافات الإسرائيليات ، فيها ضروب من الكذب والضلالات ، سنعود إليها في تفسير سورة طه إن شاء الله وقدر لنا الحياة .
قال تعالى في بيان ضلالتهم ، وتقريعهم على جهالتهم ،{ ألم يروا أنّه لا يكلّمهم ولا يهديهم سبيلا} أي ألم يروا أنه فاقد لما يعرف به الإله الحق ، وخاصة ما له من حق العبادة على الخلق ، بما يكلم به من يختاره منهم لرسالته ، ويعلمه ما يجب أن يعرفوه من صفاته وسبيل عبادته ، كما يكلم رب العالمين رسوله موسى عليه السلام ، ويهديه سبيل الشريعة التي تتزكى بها أنفسهم ، وتقوم بها مصالحهم ، فعلم بهذا أن من شأن الرب الإله الحق أن يكون متكلما ، وأن يكلم عباده ويهديهم سبيل الرشاد باختصاصه من شاء منهم وإعداده لسماع كلامه ، وتلقي وحيه وتبليغ أحكامه ، وفي سورة طه:{ أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولا ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا} [ طه:89] فالمراد بالقول هداية الوحي ، والمعنى أنه ليس له من صفات الرب الإله هداية الإرشاد التي مرجعها صفة الكلام ، ولا الضر والنفع اللذين هما متعلق صفتي القدرة والإرادة .
ثم قال تعالى:{ اتّخذوه وكانوا ظالمين} أي اتخذوه وهم يرون أنه لا يكلمهم بما فيه صلاحهم ، ولا يهديهم لما فيه رشادهم ، ولا يملك دفع الضر عنهم ، ولا إسداد النفع إليهم ، أي أنهم لم يتخذوه عن دليل ولا شبهة دليل ، بل عن تقليد لما رأوا عليه المصريين من عبادة العجل"أبيس "من قبل ، ولما رأوه من العاكفين على أصنام لهم من بعد ، وكانوا ظالمين لأنفسهم بهذا الاتخاذ الجهلي الذي يضرهم ولا ينفعهم بشيء .