/م148
{ ولمّا سقط في أيديهم} يقال:سقط في يده وأسقط في يده- بضم أولهما على البناء للمفعول- وكذا بفتح أول الثلاثي على قلة في اللغة وشذوذ في القراءة- أي ندم ، ويقولون فلان مسقوط في يده وساقط في يده أي نادم كما في الأساس ولكنه فسره في الكشاف بشدة الندم والحسرة وجعله من باب الكناية وفي اللسان:وسقط في يد الرجل –زل وأخطأ وقيل ندم ، قال الزجاج يقال للرجل النادم على ما فعل الحسر على ما فرط منه:قد سقط في يده وأسقط ...وفي التنزيل العزيز{ ولما سقط في أيديهم} قال الفارسي:ضربوا بأكفهم على أكفهم من الندم ، فإن صح ذلك فهو إذا من السقوط ، وقد قرئ"سقط في أيديهم "كأنه أضمر الندم أي سقط الندم في أيديهم كما تقول لمن يحصل على شيء وإن كان مما لا يكون في اليد:قد حصل في يده من هذا مكروه ، فشبه ما يحصل في القلب وفي النفس بما يحصل في اليد ويرى بالعين 1ه .
زاد الواحدي في تفسيره:وخصت اليد لأن مباشرة الأمور بها كقوله تعالى:{ ذلك بما قدمت يداك} [ الحج:10] أو لأن الندم يظهر أثره بعد حصوله في القلب في اليد كعضها والضرب بها على أختها ونحو ذلك فقد قال سبحانه في النادم:{ فأصبح يقلب كفيه} [ الكهف:42]{ ويوم يعض الظالم على يديه} [ الفرقان:27] وفي تاج العروس:وفي العباب هذا نظم لم يسمع قبل القرآن ولا عرفته العرب ، والأصل فيه نزول الشيء من أعلى إلى أسفل ووقوعه على الأرض ثم اتسع فيه فقيل للخطأ من الكلام سقط لأنهم شبهوه بما لا يحتاج إليه فيسقط ، وذكر اليد لأن الندم يحدث في القلب وأثره يظهر في اليد كقوله تعالى:{ فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها} [ الكهف:42] ، ولأن اليد هي الجارحة العظمى فربما يسند إليها ما لم تباشره كقوله تعالى:{ ذلك بما قدمت يداك} [ الحج:22] 1ه .
والمعنى أنهم لما اشتد ندمهم وحسرتهم على ما فعلوا{ ورأوا أنّهم قد ضلّوا} أي وعلموا أنهم قد ضلوا بعبادة العجل أو تبين لهم ضلالهم به وتحقق بما قاله وفعله موسى حتى كأنهم رأوه رأي العين{ قالوا لئن لم يرحمنا ربّنا ويغفر لنا} أي أقسموا أنه لا يسعهم بعد هذا الذنب إلا رحمة ربهم التي وسعت كل شيء ، قائلين لئن لم يرحمنا بقبول توبتنا والتجاوز عن جريمتنا{ لنكوننّ من الخاسرين} لسعادة الدنيا وهي الحرية والاستقلال في أرض الموعد ولسعادة الآخرة وهي دار الكرامة والرضوان .
وقد بحث بعض الغواصين على نكت البلاغة في تقديم الندم في الذكر على تبين الضلالة مع أن المعروف في العادة أن يندم الإنسان على ما علم من ذنبه فقال القطب الشيرازي ما معناه موضحا- أن الانتقال من الجزم بأن هذا الشيء أو الأمر حق إلى استبانة الجزم بضده أو نقيضه لا يكون دفعة واحدة في الأغلب بل الأغلب أنه ينتقل من الجزم بصحته أو حقيقته إلى الشك فيها ثم إلى الظن بالضد أو النقيض ثم إلى الجزم به ثم إلى تبينه واليقين فيه الذي يعبر عنه بالرؤية ، والقوم كانوا جازمين بأن ما فعلوه صواب ، والندم عليه ربما وقع لهم في حال الشك فيه فيكون تبين الضلال متأخرا عن الندم 1ه .
وأقول جاء في سياق القصة المفصل من سورة طه أنه لما أنكر عليهم هارون عليه السلام عبادة العجل وذكرهم بتوحيد الربوبية الدال على وجوب توحيد العبادة للرب وحده{ قالوا لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى} [ طه:91] فلما رجع موسى وأنب هارون عليه السلام:قال:فيما قاله له{ قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلّوا * ألّا تتّبعن أفعصيت أمري} [ طه:92 ، 93] لك{ اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين} ؟ [ الأعراف:142] فعند تصريح موسى بأنهم ضلوا ، ورؤيتهم ما كان من غضبه وإلقائه بالألواح حتى تكسرت وأخذه برأس أخيه هارون ولحيته وجره إليه ندموا على ما فعلوا ، فإن كان هذا الندم عن تقليد وطاعة لموسى لا عن علم يقيني بأن عملهم ضلال فالراجح أن يكون العلم القطعي المعبر عنه بقوله:{ ورأوا أنهم قد ضلوا} قد حصل بعد تحريق موسى للعجل ونسفه في اليمّ .
فإن كان من قواعد النحو أن العطف بالواو لا يقتضي الترتيب ، فمن قواعد علم المعاني أن ما لا يجب الترتيب فيه بزمان ولا رتبة أن يقدم في سرده وفي نسقه الأهم ، فإن لم يكن تقديم الندم هنا لسبقه في الزمن فالأظهر أنه للمبالغة في استشعارهم استحقاق العقاب كأنه يقول أنهم على ندمهم وتوبتهم التي من شأنها محو الذنب وترك العقاب وعلى كونهم صاروا على علم يقيني ببطلان عبادة العجل ووجوب تخصيص الرب بالعبادة- قالوا ذلك القول الدال على أن مجموع الأمرين لا يكفي لاستحقاق المغفرة إلا برحمة الله تعالى ، ومن المعلوم أن العلم بالضلال وحده لا يقتضي العفو والمغفرة إلا إذا ترتب عليه العمل بمقتضاه وهو التوبة والرجوع إلى الله تعالى بالعمل فإن الذين ضلوا على علم ولم يتوبوا أشد الناس عقابا فعلم بذلك أن تقديم الندم أهم من تقديم العلم بالضلال ، وهذا من فضل الله الذي لم نره لأحد ، وقد علم منه وجه تقديم ذكر الرحمة على ذكر المغفرة وهو أنها سببها ، فإن التوبة ومعرفة الحق لا يكفيان للمغفرة بدونها .
ولا غرو فقد ورد في الصحيحين عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:( لن يدخل أحدا عمله الجنة ) قالوا ولا أنت يا رسول الله ؟ قال:( ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضل ورحمة فسددوا وقاربوا ){[1246]} الخ الحديث ، وفي مسلم من حديث جابر ( لا يدخل أحدا منكم عمله الجنة ولا يجيره من النار .ولا أنا إلا برحمة من الله ){[1247]} وأمثل الأجوبة في الجمع بين الحديث وبين الآيات الكثيرة الصريحة في دخول الجنة بالعمل أن ذلك بفضل الله ورحمته فإن عمل أي عامل لا يستحق عليه لذاته ذلك النعيم الكامل الدائم ، بل لا يفي عمل أحد ببعض نعم الله تعالى عليه في الدنيا .وأما قولهم إن دخول الجنة بالرحمة واقتسامها بالأعمال فهو لا يدفع التعارض بين الآيات والحديث فإن منها{ ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون} [ النحل:32] .