{ ولمّا رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربّكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه قال ابن أمّ إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظّالمين 150 قال ربّ اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الرّاحمين 151}
{ ولمّا رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا} ذكر في أول مادة ( أ س ف ) من لسان العرب أن الأسف شدة الحزن والغضب .والأكثرون لا يشترطون شدتهما قال في المصباح:أسف أسفا من باب تعب حزن وتلهف فهو أسف مثل تعب ، وأسف مثل غضب وزنا ومعنى ، ويعدى بالهمزة فيقال آسفته .وقال الراغب:الأسف الحزن والغضب معا ، وقد يقال لكل منهما على الانفراد ، وحقيقته ثوران دم القلب شهوة الانتقام فمتى كان ذلك على من دونه انتشر فصار غضبا ، ومتى كان على من فوقه انقبض فصار حزنا ، ولذلك سئل ابن عباس عن الحزن والغضب ؟ فقال مخرجهما واحد واللفظ مختلف فمن نازع من يقوى عليه أظهره غيظا وغضبا ، ومن نازع من لا يقوى عليه أظهره حزنا وجزعا .وبهذا النظر قال الشاعر:
* فحزن كل أخي حزن أخو الغضب*
ثم ذكر أن الأسف في الآية التي نفسرها هو الغضبان فهو إذاً مترادف ، وقد فاته هنا ما نعهد من تحقيقه لمدلولات الألفاظ وما أظن أن ما نقله عن ابن عباس يصح فإن ما ذكر من المقابلة بين الغضب والحزن إنما يظهر بين الغضب والحقد ، وإنما الحزن ألم النفس بفقد ما تحب من مال أو أهل أو ولد .وليس من شهوة الانتقام في شيء .ومن شواهد استعمال الأسف بمعنى الحزن قوله تعالى حكاية عن يعقوب عليه السلام{ وقال يا أسفى على يوسف} [ يوسف:84] ومن شواهد استعماله بمعنى الغضب قوله تعالى:{ فلمّا آسفونا انتقمنا منهم} [ الزخرف:55] ولا يوصف تعالى بالحزن ولا يسند إليه .وغضبه سبحانه ليس كغضب البشر ألما في النفس ، ولا أثرا لغليان دم القلب ، تعالى عن هذه الانفعالات والآلام البشرية ، وإنما هو صفة تليق به هي سبب العقاب .والجمع بين الغضبان والأسف في صفة موسى عليه السلام يدل على أن الأسف بمعنى الحزين .
والمعنى أنه لما رجع موسى من الطور إلى قومه غضبان على أخيه هارون إذ رأى أنه ضعف في سياسته لهم ، ولم يكن ذا عزيمة في خلافته فيهم ، حزينا على ما وقع منهم من كفر الشرك ، وإغضاب الله عز وجل:{ قال بئسما خلفتموني من بعدي} أي بئس خلافة خلفتمونيها من بعد ذهابي عنكم إلى مناجاة الرب تعالى من بعد ما كان من شأني معكم أن لقنتكم التوحيد وكففتكم عن الشرك وبينت لكم فساده وبطلانه وسوء عاقبة أمره حين رأيتم القوم الذين يعكفون على أصنام لهم من تماثيل البقر- فكان الواجب عليكم أن تخلفوني باقتفاء سيرتي ولكنكم خلفتموني بضدها إذ صنعتم لكم صنما كأصنام أولئك القوم أو كأحد أصنام المصريين فعبده بعضكم ، ولم يردعكم عن ذلك سائركم- فالتوبيخ عام ، وفيه تعريض خاص بهارون عليه السلام لأنه جعله خليفته فيهم كما تقدم .
{ أعجلتم أمر ربكم} قال في لسان العرب:وعجله سبقه ، وأعجله استعجله .وفي التنزيل العزيز{ أعجلتم أمر ربكم} أي استبقتم قال الفراء:تقول عجلت الشيء أي سبقته وأعجلته استحثثته 1ه .وقال في الكشاف:يقال عجل عن الأمر إذا تركه غير تام ، ونقيضه تم عليه ، وأعجله عنه غيره ، ويضمن معنى سبق فيعدى تعديته فيقال عجلت الأمر:والمعنى أعجلتم عن أمر ربكم وهو انتظار موسى حافظين لعهده وما وصاكم به ، فبنيتم الأمر على أن الميعاد قد بلغ آخره ولم أرجح إليكم فحدثتم أنفسكم بموتي فغيرتم كما غيرت الأمم بعد أنبيائهم .وروي أن السامري قال لهم حين أخرج لهم العجل وقال:( هذا إلهكم وإله موسى ) إن موسى لن يرجع وإنه قد مات 1 ه .
وقال ابن كثير وقوله:{ أعجلتم أمر ربكم} أي استعجلتم مجيئي إليكم وهو مقدر من الله تعالى 1ه .وقد نقل الألوسي كلام الكشاف من غير عزو كعادة أكثر المؤلفين بعد سلف الأمة ثم قال .وذهب يعقوب إلى أن السبق معنى حقيقي له من غير تضمين .والأمر واحد الأوامر ، وعن الحسن:أن المعنى أعجلتم وعد ربكم الذي وعدكم من الأربعين ؟ فالأمر عليه:واحد الأمور 1ه والمراد بالأربعين ما بينه من أنها الليالي التي واعد موسى ربه كما تقدم .
ثم قال:{ وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجرّه إليه} أي وطرح الألواح من يديه ليأخذ برأس أخيه مما كان من شدة غضبه لله تعالى وأسفه لما فعل قومه من الشرك به ولما ظن من تقصير أخيه وأخذ بشعر رأس أخيه يجره إليه بذؤابته ، إذ كان الواجب عليه في اجتهاد موسى أن يردعهم ويكفهم عن عبادة العجل إن قدر كما فعل هو بتحريقه وإلقائه في اليم –وأن يتبعه إلى جبل الطور إن لم يقدر كما حكى الله تعالى عنه في سورة طه:{ قال يا هارون ما منعك إذ رأيتهم ضلّوا * ألّا تتّبعن أفعصيت أمري} [ طه:92 ، 93] ؟
والاجتهاد يختلف باختلاف أحوال المجتهدين فالقوي الشديد الغضب للحق بالحق كموسى عليه السلام ، يشعر بما لا يشعر به من يغلب عليه الحلم ولين العريكة كهارون عليه السلام .وقد بحث بعض المفسرين في إلقاء الألواح وما روي من تكسر بعضها هل يتضمن تقصيرا في تعظيم كلام الله تعالى ؟ وكيف يمكن أن يقع مثل ذلك من الرسول المعصوم ولو في حال الغضب الشديد ؟ بل توهم بعضهم أنه يتضمن في نفسه نوع إهانة للألواح فوجب بيان المخرج منه .والمختار عندنا في الجواب عن هذه الأوهام أن إلقاء الألواح لا يقتضي إهانة لها ، كما أن إلقاء العصا لإقامة الحجة على السحرة لا يتضمن مثل ذلك ، فالإلقاء في نفسه لا يقتضي ذلك لغة ولا عادة وإنما يقع ما يقع من مثل ذلك بقصد وهو ممتنع هنا قطعا- وإن كان الغضب مظنة له ، فعلم بهذا أن ما أطال به بعضهم لا طائل تحته ولا حاجة إليه .
وماذا كان جواب هارون عليه السلام{ قال ابن أمّ إنّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني} قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم هنا وفي سورة طه:{ ابن أم} بكسر الميم على حذف ياء المتكلم للتخفيف وهي تطرح في المنادى المضاف ، وقرأها الباقون بالفتح وعللوها بزيادة التخفيف وبالتشبيه بخمسة عشر ، وقرئ في الشواذ"ابن أمي "بإثبات الياء على الأصل .قال في الكشاف:قيل كان أخاه لأبيه وأمه فإن صح فإنما أضافه إلى الأم إشارة إلى أنهما من بطن واحد ، وذلك أدعى إلى العطف والرقة وأعظم للحق الواجب ، ولأنها كانت مؤمنة فاعتد بنسبها ، ولأنها هي التي قاست فيه المخاوف والشدائد فذكره بحقها 1ه .وهو حسن إلا قوله فاعتد بنسبها فإن النسب لا يتوقف على الإيمان .واسم أمهما ( يوكابد ) بنت لاوي كما في التوراة عندهم .
والمعنى يا ابن أمي لا تعجل بمؤاخذتي وتعنيفي فإنني لم آل جهدا في الإنكار على القوم والنصح لهم ولكنهم استضعفوني فلم يرعووا لنصحي ولم يمتثلوا أمري ، بل قاربوا أن يقتلوني{ فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظّالمين} أي فلا تفعل بي من المعاتبة والإهانة ما يشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين لأنفسهم بعبادة العجل بأني تلزني بهم في قرن من الغضب والمؤاخذة فلست منهم في شيء .والظاهر أنه يعني بالأعداء والظالمين فريقا واحدا وهم الذين عبدوا العجل فأنكر عليهم فوجدوا عليه وكادوا يقتلونه ، وهذا دليل على أنه كان دون موسى في قوة الإرادة وشدة العزيمة ، وهو ما اتفق عليه علماؤنا وعلماء أهل الكتاب .