وهذا الندم أكان بعد حضور موسى من الميقات ولومهم وتأنيبهم ، أم كان بعده ؟ والظاهر هو الثاني . وقد قال في حال موسى – عليه السلام – عندما رجع:
{ ولما رجع موسى إلى قومه غضبان قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه} .
أخبر الله – سبحانه وتعالى – موسى أخبارهم ، ولما رجع ظهر غضبه عليهم ، فقال تعالى:{ ولما رجع موسى إلى قومه غضبان} ، أي أنه غضب غضبا شديدا ؛ لأن التعبير بغضبان تدل على امتلاء النفس بالغضب ؛ لأن صيغة فعلان تدل على الامتلاء كسكران وشبعان ، ونحوها ، و{ أسفا} أي حزينا ، أي أنه غضب لهذا الأمر الشاذ ، ولما تفكر في الحال حزن حزنا شديدا ، فالأسف:الحزن . كقول يعقوب:{ …… . . يا أسفي على يوسف ……… . ( 84 )} ( يوسف ) ، أي أنه في حال الحزن الذي لا حزن وراءه .
قال لهم:{ بئسما خلفتموني من بعدي} ، أي بئس ما صنعتم خلفي من بعدي وفي غيبتي أي خلفتموني بشر ، وهو جدير بالذم ، وكان ذلك في غيبتي ، فكأنهم خانوه مرتين مرة بهذا العمل الفاسد الضال المشرك ، ومرة بأنهم انتهزوا فرصة غيبته وفعلوا ما فعلوا ، فكانوا آثمين ، إثمين ، إثم العمل ، وإثم أنهم خانوه في غيبته ، وقال:{ أعجلتم أمر ربكم} أردتم العجلة في أمر ربكم وذلك خروج عن حدودكم .
{ وألقى الألواح} ، التي تلقاها عن ربه مكتبوبة مفروضة جانبا ، لا أنه رماها حتى تكسرت كما زعم بعض المفسرين . بل ألقاها جانبا ليفرغ لمناقشة الذين غيروا وبدلوا من بعده ، ومن سكتوا عن تغييرهم ، وأول مسئول سأله هو أخوه هارون ، قال تعالى:{ وأخذ برأس أخيه يجره إليه} أكثر المفسرين على أنه في غضبه ، قد أخذ لحية أخيه وقبض قبضة من شعره يجره إليه ، وقالوا:إن ذلك كان متعارفا عندهم ، أو لأنه أراد مناجاته ، أو أراد أن يسر إليه أمر الألواح ، أو أراد نصحه ، ونرى ذلك بعيدا عن روح النص ؛ إنما الظاهر أنه أراد لومه لوما شديدا ؛ بحسب أنه قصر عن مقدرة بدليل رد هارون:{ ابن أم إن القوم استضعفوني} . ويصح لنا أن نقول على هذا إنه يصح أن يكون أخذ اللحية وجر الرأس لا يراد به حقيقته إنما يراد به لازمه ، وهو إلقاؤه التبعة عليه لأنه خلفه عليهم ، ونهاه عن أن يتبع القوم المفسدين ، وأن ذلك كناية عن هذا ؛ لأن ذلك لا يكون عند اللوم الشديد ، وقد اعتذر لأخيه بأنهم استضعفوه ، أي عدوه ضعيفا ، أو طلبوا موضع الضعف فيه ، وهو أنه ليس المسئول الأصلي ، وإنما هو ردء لأخيه ، وقد غاب الأصل ، فاستضعفوا خليفته ، وقال:{ وكادوا يقتلونني} أي شدد النكير عليهم حتى كادوا يقتلونه ، أي قاربوا أن يقتلوه ،{ فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين} طلب من أخيه أمرين:أولهما ، ألا يتمادى في مؤاخذته فيشمت الأعداء بهارون وهو المداوم على نصرته ، وعرض نفسه معه لأذى فرعون الطاغية ، الثاني:ألا يجعله في عداد الظالمين ، بأن يعتبره ممن عبدوا العجل ، أو تهاونوا في استنكاره ، فإنه قد قام بحق الخلافة عن أخيه ، ولكنهم وقعوا فيما وقعوا فيه بأمر لا قبل له في دفعة ، وهو له منكر .