وماذا كان من أثر هذا الاستعطاف في قلب موسى عليه السلام{ قال ربّ اغفر لي ولأخي} أي اغفر لي ما أغلظت عليه به من قول وفعل ، واغفر له ما عساه قصر فيه من مؤاخذة القوم ، لما توقعه من الإيذاء حتى القتل ،{ وأدخلنا في رحمتك} التي وسعت كل شيء بجعلها شاملة لنا وجعلنا مغمورين فيها .وهو أبلغ من"وارحمنا "{ وأنت أرحم الرّاحمين} وهذا ثناء ، يدل على مزيد الثقة في الرجاء ، والدعاء في جملته أقوى في استعتاب هارون من الاعتذار له ، وأدل على تخييب أمل الأعداء في شيء مما يثير حفيظة الشماتة ، قال الزمخشري في تعليله:ليرضي أخاه ويظهر لأهل الشماتة رضاه عنه فلا تتم لهم شماتتهم ، واستغفر لنفسه مما فرط منه إلى أخيه ، ولأخيه أن عسى فرط في حسن الخلافة ، وطلب أن لا يتفرقا عن رحمته ولا تزال منتظمة لهما في الدنيا والآخرة 1ه .
برأ القرآن المجيد هارون عليه السلام من جريمة اتخاذ العجل ومن التقصير في الإنكار على متخذيه وعابديه من قومه ، وهذا من أهم المواضع التي هيمن بها على كتب الأنبياء التي في أيدي أهل الكتاب فصحح أغلاط محرفيها ، وهو يحثو التراب في أفواه الطاعنين فيه وفيمن جاء به"برأهما الله تعالى "بزعمهم أنه أخذ عن التوراة ما فيه من أخبار موسى وغيره من أنبياء بني إسرائيل ، فإنه صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله كان أميا لم يقرأ ولم يطلع على شيء من تلك الكتب ولم يكن في بلده من يعرف من تلك الكتب شيئا ، وقد كان يقرأ على أعدى المعاندين له من قومه مثل قوله تعالى:{ وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطّه بيمينك إذا لارتاب المبطلون} [ العنكبوت:48] وقوله:{ تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا} [ هود:49] ولو كان يعلم أو كانوا يعلمون شيئا من تلك الكتب لكذبه في هذا أولئك الجاحدون والمعاندون وقد تقدم الاحتجاج بهذا ، والغرض هنا إقامة حجة أخرى وهي أنه لو كان صلى الله عليه وسلم نقل عن التوراة لوافقها في كل ما نقله وهو قد خالفها في مواضع بما جعله منزله جل جلاله مهيمنا ورقيبا عليها ، ومصححا لأهم ما وقع من التحريف فيها ، ومنه تبرئة هارون وغيره من الرسل عليهم السلام من الذنوب والجرائم التي عزيت إليهم فيها فجعلتهم قدوة سيئة كجعل هارون عليه السلام وهو الصانع للعجل كما هو مفصل في الفصل الثاني والثلاثين من سفر الخروج قال:
( 1- ولما رأى الشعب أن موسى أبطأ في النزول من الجبل اجتمع الشعب على هارون وقالوا له:قم اصنع لنا آلهة تسير أمامنا لأن هذا موسى الرجل الذي أصعدنا من أرض مصر لا نعلم ماذا أصابه 2- فقال لهم هارون:انزعوا أقراط الذهب التي في آذان نسائكم وبنيكم وبناتكم وأتوني بها 3- فنزع كل الشعب أقراط الذهب التي كانت في آذانهم وأتوا بها إلى هارون 4- فأخذ ذلك من أيديهم وصوره بالأزميل وصنعه عجلا مسبوكا فقالوا:هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر 5- فلما نظر هارون بنى مذبحا أمامه ونادى هارون وقال:غداً عيد للرب 6- فبكروا في الغد وأصعدوا محرقات وقدموا ذبائح سلامة وجلس الشعب للأكل والشرب ثم قاموا للعب 7- فقال الرب لموسى:اذهب انزل لأنه قد فسد شعبك الذي أصعدته من أرض مصر 8- زاغوا سريعا عن الطريق الذي أوصيتهم به صنعوا لهم عجلا مسبوكا وسجدوا له وذبحوا له وقالوا:هذه آلهتك يا إسرائيل التي أصعدتك من أرض مصر ) .
وبعد هذا ذكر أن الرب قال لموسى إن هذا الشعب صلب الرقبة وأن غضبه اشتد عليهم ليفنيهم ، وأن موسى استرحمه أن لا يفعل ولا يشمت بهم المصريين وذكره وعده سبحانه لإبراهيم وإسحاق ويعقوب بتكثير نسلهم ، ثم ذكر مسألة عودة موسى إلى قومه وما فعل ثم قال:
( 19- وكان عندما اقترب إلى المحلة أنه أبصر العجل والرقص فحمي غضب موسى وطرح اللوحين من يديه وكسرهما في أسفل الجبل 20- ثم أخذ العجل الذي صنعوا وأحرقه بالنار وطحنه حتى صار ناعما وذراه على وجه الماء وسقى بني إسرائيل 21- وقال موسى لهارون ماذا صنع بك هذا الشعب حتى جلبت عليه خطية عظيمة 22- فقال هارون لا يحم غضب سيدي عليّ ، أنت تعرف الشعب إنه في شر 23- فقالوا لي اصنع لنا آلهة تسير أمامنا ) الخ .
ثم ذكر طلب موسى من الرب أن يغفر لقومه وأمر الرب إياهم بأن يقتل كل واحد أخاه وكل واحد صاحبه وكل واحد قريبه- وأن بني لاوي فعلوا ذلك فقتل منهم في ذلك اليوم نحو من ثلاثة آلاف رجل .وقد تقدم ذكر هذه المسألة في سورة البقرة .