ويلتفت أهل الأعراف إلى أهل الجنة ، فيجدون الضعفاء الذين كانت تزدريهم أعين هؤلاء الطغاة فيخاطبونهم وهم في النار بقولهم:{ أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون ( 49 )} هذا القول فيه بيان لمقام الإيمان ، ودرك الكفر ، لقد كانوا يسخرون منهم لفقرهم ، ويحسبون أنهم أعلى منهم منزلة في الدنيا ، فيجب أن يكونوا أعلى منزلة في الآخرة ، وكانوا يقسمون بأن هؤلاء الفقراء أتباع النبيين لن ينالهم الله برحمة من عنده ، أخذا من حال الفقر وازدرائهم التي كانوا عليها في الدنيا . فأهل الأعراف رأوهم في الجنة ، فقالوا لأهل النار مشيرين إلى الضعفاء في الدنيا ، وهم في الجنة أقوياء مستمتعون:{ أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة} .
أهم الذين ترونهم رأى العين في رحمة الله تعالى في جنة الخلد ، أهؤلاء والإشارة إليهم وهم في الجنة تجري من تحتهم الأنهار ،{ أهؤلاء الذين أقسمتم} ، أن الله لا ينالهم برحمة ، والتنكير الذي جاء على ألسنتهم في الدنيا لتصغير الرحمة ، أي أنهم أقسموا أن الله تعالى لا ينالهم بأي رحمة مهما صغرت وضؤلت .
وذلك لأفن عقولهم ، وضلال أفهامهم ، إذ ظنوا أن من ينالون القوة والثراء في الدنيا هم الذين ينالونها في الآخرة إن كانت ، وما كان قسمهم هذا إلا لازدرائهم ، وتكريم الأنبياء لهم ، ووعدهم بالثواب عند الله ، وإن الله تعالى يجزيهم أحسن الجزاء فما كان قسمهم إلا تكذيبا للأنبياء الذين وعدوهم الحسنى في الآخرة ، وإن هذا التوسل على لسان أهل الأعراف نذير لما كان من أهل النار في الدنيا وبيان أنهم في ضلال مبين ، وقد كان ضلالهم بالعيان المحسوس ، لا بالحدس المتلمس .
وقد وجهوا بعد ذلك الخطاب لأولئك ملتفتين إليهم من التحدث عنهم إلى خطابهم فقالوا:{ ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون} .
ادخلوا أيها المخلصون الذين أخلصوا دينهم ، وصبروا وصابروا الجنة بما فيها من نعيم حسي ، وراحة نفسية ، وطلب الدخول هنا تقرير للدخول ؛ لأنهم دخلوا فعلا ، وما كان دخولهم بعد الطلب ، إنما كان قبله ، كما ترى إنسانا في أرض طيبة فينتفع وهو فيها ، ويستحقها ، تقول له:ادخلها وابق فيها .
{ لا خوف عليكم} من شر يحيق بكم ، ولا هم يغمكم ، بل أنتم في روح وريحان ،{ و لا أنتم تحزنون} على الخير لكم ، وحاضر نعيم ، وسعادة ، وقد نزع الله تعالى من قلوبكم الغل فأنتم تنعمون براحة البال والمحبة والتواد بينكم ، فلا تنغص من حقد أو حسد ، أو تباغض .
تنبيه:إن أهل الأعراف يحبسون عن دخول الجنة ، ويرون ما عليه أهل النار ، وما عليه أهل الجنة ، ويقول في ذلك الزمخشري في الكشاف:( فائدة ذلك بيان أن الجزاء على قدر الأعمال ، وأن التقدم والتأخر على حسبها ، وإن أحدا لا يسبق عند الله إلا بسبقه في العمل ، ولا يتخلف إلا بتخلفه فيه وليرغب السامعون في حال السابقين ويحرصوا على إحراز قصبتهم ، ولتصور أن كل أحد يعرف في ذلك اليوم بسيماه التي استوجب أن يوسم بها من أهل الخير والشر ، فيرتدع المسيء عن إساءته ، ويزيد المحسن في إحسانه ، وليعلم أن العصاة موبخهم كل أحد حتى أقصد الناس عملا ) .