{ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللّهُ بِرَحْمَة} أي يشيرون إلى أولئك المستضعفين الذين كانوا يضطهدونهم ويعذبونهم في الدنيا كآل ياسر وصهيب الرومي وبلال الحبشي .ويقولون لهم متهكمين بخزيهم وفوز من كانوا يحتقرونهم:أهؤلاء الذين أقسمتم في الدنيا أن الله تعالى لا ينالهم برحمة لأنه لم يعطهم من الدنيا ما أعطاكم .
{ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُون} أي قيل لهم من قبل الرحمن عز وجل:ادخلوا الجنة لا خوف عليكم مما يكون في مستقبل أمركم ، ولا أنتم تحزنون من جراء شيء ينغص عليكم حاضركم .وحذفُ القولِ للعلم به من قرائن الكلام كثيرٌ في التنزيل وفي كلام العرب الخلص ، ولكنه قل في كلام المولدين ، حتى لا تراه إلا في كلام بعض بلغاء المنشئين ، وقيل إن أهل الأعراف هم الذين يقولون لهؤلاء ادخلوا الجنة إلخ وهو بعيد بل لا يصح مطلقا على القول بأنهم الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم إذ لا يليق بحالهم أن يخاطبوا من هم فوقهم بهذا الأمر لا قبل دخول الجنة ولا بعده وهو وإن كان يليق من الملائكة أو الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فالمتبادر الأول وهو الحكاية بتقدير القول وروي عن عكرمة .وقيل إن الأمر بدخول الجنة لأصحاب الأعراف .وروي عن الربيع عن ابن أنس في تفسير الآية قال:كان رجال في النار قد أقسموا بالله لا ينال أصحاب الأعراف من الله رحمة فأكذبهم الله فكانوا آخر أهل الجنة دخولا فيها سمعناه عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهذا ضعيف معارض بما في الصحاح في آخر أهل الجنة دخولا وتقدم آنفا .
وجملة القول في أصحاب الأعراف أن ما حكاه تعالى عنهم يحتمل أن يكون ( إن صح وجود الأعراف حينئذ ) بعد المرور على الصراط وقبل دخول أهل الجنةِ الجنةَ وأهل النارِ النارَ وأن يكون بعد ذلك .فالأول لولا ما ينافيه مما تقدم يرجح أنهم الأنبياء وحدهم أو مع غيرهم من الشهداء على الخلق ، لأن وجودهم هنالك تمييز وتفضيل على جميع أهل الموقف ولا يصح هذا لغيرهم إلا أن يكون للملائكة ، وهو ما يمنع منه التعبير برجال ، وإن أوله أبو مسلم بكونهم في صورتهم .والثاني والثالث يرجحان أنهم الذين استوت حسناتهم وسيئاتهم بمعونة كثرة الروايات فيه ، يوقفون على الأعراف طائفة من الزمن يظهر فيها عدل الله تعالى بعدم مساواتهم بأصحاب الحسنات الراجحة بدخول الجنة معهم ولا بأصحاب السيئات الراجحة بدخول النار معهم ، ولو بقوا في هذه المنزلة بين المنزلتين لكان عدلا ولكن ورد أنه تعالى يعاملهم بعد هذا العدل بالفضل ويدخلهم الجنة ، ولا بد أن يكون ذلك قبل إخراج من يعذبون في النار من المؤمنين الذين رجحت سيئاتهم على حسناتهم ، والدليل على عدم بقاء أحد في منزلة بين الجنة والنار ما ورد من الآيات الكثيرة في القسمة الثنائية{ فريق في الجنة وفريق في السعير} ( الشورى 7 ) .
وكل من تلك الاحتمالات التي يبنى عليها الترجيح بين هذين القولين له مرجحات ومعارضات من الآيات كما علم من تفسيرنا لها ، وقد يكون من مرجحات الثاني والثالث وضع هذه الآيات بين نداء أهل الجنة أهل النار:{ أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا} ( الأعراف 44 ) الآية ونداء أهل النار أهل الجنة أن يفيضوا عليهم من الماء والطعام الذي يتمتعون به في قوله عز وجل:{ وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} .