ولقد حذر الله تعالى من أسباب الفساد عندما يفيض الخير فقال عز من قائل:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} .
أمر الله تعالى المؤمنين بأن يذكروا في الرخاء الشدة ، وفي الكثر يذكرون القل ، وفي العز يذكرون الذل ، وفي حال الاعتزاز يذكرون الاستضعاف ليعرفوا النعمة ، وحقها ، وقد ذكر بعد ذلك ما يصون رفعة الأمم والآحاد ، فذكر أنه الأمانة ؛ ولذا حث عليها بالنهي عن الخيانة .
والتفسير اللغوي لكلمة ( خان ) هو أن معناها نقص ؛ ولذا يقال لنقيضها ، ( وفى ) فيقال خان الأمانة ، بمعنى نقضها ، ويقال وفاها أي أداها على وجهها ، والنهي عن خيانة الله وخيانة رسوله فهي واحدة ، لأن ما يطلبه الله يطلبه رسوله ، ولكن ألحق جلاله مع النبي أو النبي مع الله ؛ لتأكيد المعنى في أن من أطاع الرسول فقد أطاع الله ، ولبيان أن الرسول لا يطلب إلا ما يطلبه الله تعالى ؛ ولأن يبين أن نصرة لرسول نصر لله ، ومحبة لرسول محبة لله{ قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم . . . . . . . . . . . . . ( 31 )} ( آل عمران ) ، وأن خيانة الرسول خيانة لله تعالى .
وخيانة الله ورسوله ، تشمل عدم إطاعة الشرع ، ومخالفة نواهيه ، وترك الجهاد ، وإفشاء أسرار المؤمنين ، وإعلان ما أمر الله بكتمانه ، والغلول في الغنيمة قبل قسمتها ، والكيد لجماعات المسلمين ، واتخاذ بطانة من غيرهم ، وموالاة أعداء الحق ، وفي الجملة مناوأة أهل الحق سرا وباطنا ، فهذه كلها خيانة لله ورسوله ، وعدم رعاية الأمانات ، ومناصرة الظالم ، ومعاونته على الظلم وعدم مراعاة الأمانات ، وفي الجملة تشتمل خيانة الله ورسوله كل خيانة للشريعة ، سواء أكانت تتعلق بالآحاد والجماعات ، وقوله:{ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} ، عطف على خيانة الله ورسوله ، والمراد{ أماناتكم} الأمانات التي عهد إليكم بالقيام عليها ، وأدائها في وقتها ويكون النهي عن خيانتها وارد من ناحيتين:
الناحية الأولى:من جهة أن خيانتها خيانة لله ولرسوله ؛ لأن الله تعالى أمر بأداء الأمانات إلى أهلها ، فقال تعالى:{ إن الله يأمركم أن تأدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ( 58 )} ( النساء ) ومن أن شريعة الله التي بلغها محمد صلى الله عليه وآله وسلم تأمر بأداء أمانات العباد إلى أصحابها .
والناحية الثانية من أمانات العباد:حق العباد ، وديوان ظلم العباد لا يغفر إلا برد مظلمة ظلم الطاغين ، وقد أكد الله تعالى النهي وغلظه بقوله تعالى:{ وأنتم تعلمون} أي تجحدون الأمانة وأنتم تعلمون وجوبها ، أو تنكرونها ، وأن تعلمون أمرها ، وأن أداءها واجب عليكم .
ونرى من هذا أن خيانة الله ورسوله والناس أجمعين منهي عنها ، وأن عمومها لا يمنع أنها قد تكون اقترنت في نزولها بحوادث وقعت من بعض الصحابة .
فقد روى أن أبا لبابة بينه وبين قريظة صلات ، فلما حكم النبي صلى الله عليه وآله وسلم سعد بن معاذ فيهم أشار إليهم أبو لبابة بألا يحكموه ، وأشار إليهم بأن حكمه الذبح ، فأحس بأنه خان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فربط نفسه في سارية المسجد ، ونذر ألا يأكل حتى يحله رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فمكث تسعة أيام خر على أثرها مغشيا عليه فتاب الله تعالى عليه ، وحل وثاقه فقال:إنه نذر أن ينخلع من كل ماله ، إن تاب الله عليه ، فاكتفى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بثلث ماله ( 1 ){[1164]} .
وروى أنها نزلت عندما أرسل حاطب بن أبي بلتعة إلى المشركين يخبرهم بسير النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد أمرهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالكتمان ، فخان المسلمين بهذا الإخبار ( 2 ){[1165]} . وفي الحق أن الآية عامة لهذه الأحوال وغيرها .