وإن خيانة الأمانة سببها الهوى ، ومسير الهوى ودافعه فتنة المال والولد ؛ ولذا قال تعالى ذاكرا سبب الخيانة ليكون الحذر:
{ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} .
سبحان منزل القرآن ، أنزله نظاما وشرعا محكما ، وحكمة منزلة ، هو أمرنا ألا نخون ، وعلمنا كيف نحارب نوازع الخيانة في نفوسنا ، ونعالج منابع الفساد فينا ، وهدانا السبيل لأن نربي أنفسنا ؛ طلب إلينا ألا نخون ، ثم بين موضع الداء وهو فتنة المال والولد .
والأمر في قوله تعالى:{ وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ} . أمر تعليم وعلم ، وهذا العلم هو أن المال والولد فتنة ، والفتنة هنا المراد بها الاختبار والامتحان من فتن الفلز إذ صهره بالنار لإخراج الفلز مما يعلق من مفاسد .
وإنه بمقدار توقينا لفتنة المال يكون بعدنا عن الخيانة ، ولقد قالوا:إنه كان لأبي لبابة الذي ذكرنا أنه شعر بأنه خان الله ورسوله إذ أشار لليهود بأن الحكم الذي سيصدره معاذ هو الذبح ، كانت له أموال عند اليهود يخاف ضياعها ففتنة المال أغرته ، بأن يقدم على الخيانة ، وأن يطهر نفسه ذلك التطهير الشديد ، بأن يحاول الانخلاع من كل ماله ، فيخفف النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه يجعله في الثلث .
وفتنة المال أشد فتنة ، ويقول الله تعالى:{ المال والبنون زينة الحياة الدنيا . . . . . . . . . . . ( 46 )} ( الكهف ) ، وقال تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم . . . . . . . . . . . ( 14 )} ( التغابن ) .
وقدم المال على الولد ؛ لأن المال في أظهر أحواله متعة خالصة ، والولد متعة ، وتكليف ، وما لا تكليف فيه يكون أوضح و أظهر استمتاعا ،و لذلك طلب المال الجميع .و الأبوة متعة و لكن معها تكليف ورعاية ، والذين تفتنهم الدنيا تغرهم الأمور الظاهرة ، وتعوق متعتهم الأمور القابلة ، وإنه حيث فقد الشخص إحدى المتعتين المال ، أو الولد ، اشتدت الأخرى ؛ ولذا كانت متعة الولد تشتد عند الفقراء ، ولا تكون عند الأغنياء ، كقوتها عند الفقراء ، وتلك الفطرة .
وقوله تعالى:{ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ} فيها قصر الأموال والأولاد على الفتنة ، ومن ناحيتها تجد الخيانة مسرب الشيطان إلى النفوس ، فالآية تحذرنا من هذه الفتنة ، والحذر لا يكون بترك المال والأولاد ، إنما الحذر ألا نطلب المال إلا من الحلال ، وألا تدفعنا عاطفة الأبوة إلى الشطط ومجاوزة الحد .
وإنه يجب محاربة المتعة حتى لا تشتط بالإنسان بطلب متعة أبقى وأدوم وأهدى سبيلا ، ولذا علمنا الله تعالى الإيمان بأن عند الله أجرا عظيما ، إذا قاومنا فتنة المال والولد ، والمقاومة ليست بالحرمان كما أشرنا ، ولكن بالحذر ، وألا نتعدى حدود الله تعالى:{ تلك حدود الله فلا تعتدوها . . . . . . . . . . ( 229 )} ( البقرة ) ، ولذا قال تعالى:{ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} وذلك أجر مقاومة الفتنة ، والوقوف بالمحبة للمال والولد ، عند الحد الذي لا تكون معه خيانة ، ولا تجانف لإثم .
وقد أكد الله تعالى أجر الله الذي يتكافأ مع مقاومة الخيانة بسبب متعة المال والولد أولا:بالتعبير بالجملة الاسمية:وثانيا:ب ( أن ) ، وثالثا:بتنكير أجر ، فإن معنى هذا التنكير الكبر إلى درجة ، ورابعا:بوصفه بأنه عظيم وذلك لتحصين نفسه بهذا الأجر الذي لا يقارن قدره .