ولما كان حب الأموال والأولاد مزلة في الخيانة أعلمنا به عقب النهي عنها فقال:
{ واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة}الفتنة هي الاختبار والامتحان بما يشق على النفس فعله أو تركه أو قبوله أو إنكاره ، فتكون في الاعتقاد والأقوال والأفعال والأشياء .يمتحن الله المؤمنين والكافرين ، والصادقين والمنافقين ، ويحاسبهم ويجزيهم بما يترتب على فتنتهم من اتباع الحق أو الباطل ، وعمل الخير أو الشر ، وقد تقدم الكلام في الفتنة مرارا من وجوه .وفتنة الأموال والأولاد عظيمة لا تخفى على ذي فهم إلا أن الأفهام تتفاوت في وجوهها وطرقها ، فأموال الإنسان عليها مدار معيشته وتحصيل رغائبه وشهواته ودفع كثير من المكاره عنه ، فهو يتكلف في كسبها المشاق ويركب الصعاب ، ويكلفه الشرع فيها التزام الحلال واجتناب الحرام ، ويرغبه في القصد والاعتدال ، ثم إنه يتكلف العناء في حفظها ، وتتنازعه الأهواء المتناوحة في إنفاقها ، فالشرع يفرض عليه فيها حقوقا مقدرة وغير مقدرة ، ومعينة وغير معينة ، ومحصورة وغير محصورة ، كالزكاة ونفقات الأزواج والأولاد وغيرهم ، وكفارات بعض الذنوب المعينة من عتق وصدقة ونسك وغير ذلك .ويندب له نفقات أخرى للمصالح العامة والخاصة تكفر الذنوب غير المعينة ، ويترتب عليه شيء عظيم من الأجر والثواب .والضابط لجميع أنواع البذل من صفات النفس السماحة والسخاء من أركان الفضائل ، ولجميع أنواع الإمساك البخل وهو من أمهات الرذائل ، ولكل منهما درجات ودركات .
وأما الأولاد فهم كما يقول الأدباء:ثمرة الفؤاد وأفلاذ الأكباد ، وحبهم كما قال الأستاذ الإمام:ضرب من الجنون يلقيه الفاطر الحكيم في قلوب الأمهات والآباء ، يحملهما على بذل كل ما يستطاع بذله في سبيلهما من مال وصحة وراحة وغير ذلك ، بل روى أبو يعلى من حديث أبي سعيد الخدري مرفوعا إلى سيد الحكماء وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم ( الولد ثمرة القلب وإنه مجبنة مبخلة محزنة ) فإن كان سنده ضعيفا كما قالوا فمتنه صحيح ، فحب الولد قد يحمل الوالدين على اقتراف الآثام في سبيل تربيتهم والإنفاق عليهم وتأثيل الثروة لهم ، يحملهما ذلك على الجبن عند الحاجة إلى الدفاع عن الحق أو الحقيقة ، أو الملة والأمة ، وعلى البخل بالزكاة والنفقات المفروضة ، والحقوق الثابتة ، دع صدقات التطوع والضيافة ، كما يحملهما الحزن على من يموت منهم على السخط على الرب تعالى والاعتراض عليه وغير ذلك من المعاصي كنوح الأمهات وتمزيق ثيابهن ولطم وجوههن ، ففتنة الأولاد لها جهات كثيرة فهي أكبر من فتنة الأموال وأكثر تكاليف مالية ونفسية وبدنية ، فالرجل يكسب الحرام ويأكل أموال الناس بالباطل لأجل أولاده كما يفعل ذلك لكبائر شهواته ، فإذا قلت شهواته في الكبر فصار يكفيه القليل من المال يقوى في نفسه الحرص على شهوات أولاده ، وما يكفي الواحد لا يكفي الآحاد ، وفتنة الأموال قد تكون جزءا من فتنة الأولاد ، فتقديمها وتأخير فتنة الأولاد من باب الانتقال من الأدنى إلى الأعلى .
فالواجب على المؤمن اتقاء خطر الفتنة الأولى بكسب المال من الحلال ، وإنفاقه في سبيل الله من البر والإحسان ، واتقاء الحرام من الكسب والإنفاق ، واتقاء خطر الفتنة الثانية من جهة ما يتعلق منها بالمال وغيره مما يشير إليه الحديث ، وبما أوجب الله على الوالدين من حسن تربية الأولاد على الدين والفضائل ، وتجنيبهم أسباب المعاصي والرذائل ، قال الله تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا} [ التحريم:6] .
وقد عطف على هذا التحذير قوله:{ وأن الله عنده أجر عظيم} لتذكير المؤمنين بما يعينهم على ما يجب عليهم من اتقاء الفتنتين وهو إيثار ما عند الله عز وجل من الأجر العظيم لمن راعى أحكام دينه وشرعه في الأموال والأولاد ووقف عند حدوده وتفضيله على كل ما عساه يفوته في الدنيا من التمتع بهما ، لعلهم يتقون مثل هفوة أبي لبابة حين حذر أعداء الله ورسوله من فتح حصنهم والنزول على حكم سعد بن معاذ ، لما كان له من الاعتماد عليهم في حفظ ماله وولده ، على أن للمؤمن الصادق حسن قدوة بأبي لبابة في توبته النصوح ، إذا ألم به ضعف فوقع في مثل هفوته أو ما دونها من خيانة ، وأين مثل أبي لبابة رضي الله عنه في ذلك ؟ ونحن نرى كثيرا ممن يدعون الإيمان يخونون الله ورسوله في انتهاك حرمات دينهم ، ويخونون أمتهم ودولتهم بثمن قليل أو كثير من المال يرجونه أو ينالونه من عدوهم ، - وقد يكون من مال أمتهم وغنائم وطنهم- أو خوفا على مالهم وولدهم من سلطانه قبل أن يستقر له السلطان ، وقد أسقطت الخيانة دولة كانت أعظم دول الأرض قوة وبأسا بارتكاب رجالها الرشوة من أهلها ومن الأجانب حتى مسخت فصارت دويلة صغيرة فقيرة ، ولكن الخلف المغرور لذلك السلف المخرب يدعون أنها إنما أسقطها تعاليم الإسلام القويمة ، لأنها صارت قديمة ، ولو أنهم أقاموا واجبا واحدا أو أدبا واحدا من آداب القرآن ، لكان كافيا لوقايتها من الزوال .