{ يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفّر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم والله ذو الفضل العظيم 29}
هذه الآية آخر وصايا المؤمنين في هذا السياق وهي أعمها ، والأصل الجامع لها ولغيرها ، وكلمة الفرقان فيها كلمة جامعة ككلمة التقوى في مجيئها هنا مطلقة ، فالتقوى هي الشجرة ، والفرقان هو الثمرة ، وهو صيغة مبالغة من مادة الفرق ومعناها في أصل اللغة الفصل بين الشيئين أو الأشياء والمراد بالفرقان هنا العلم الصحيح والحكم الحق فيها ، ولذلك فسروه بالنور ، وذلك أن الفصل والتفريق بين الأشياء والأمور في العلم هو الوسيلة للخروج من حيز الإجمال إلى حيز التفصيل ، وإنما العلم الصحيح هو العلم التفصيلي الذي يميز بين الأجناس والأنواع والأصناف والأشخاص ، وإن شئت قلت بين الكليات والجزئيات ، والبسائط والمركبات ، والنسب بين أجزاء المركبات ، من الحسيات والمعنويات ، ويبين كل شيء من ذلك ويعطيه حقه الذي يكون به ممتازا من غيره .وإيراد الأمثلة على ذلك يطول فيشغل عن القدر المحتاج إليه في تفسير لفظ الفرقان إلا أن نترك عوالم المادة وقواها ونأتي بمثال من اللغة لأن لفظ الفرقان من مفرداتها فنقول إن العامي يعلم من اللغة أمرا إجماليا وهو أنها ألفاظ يعبر بها الإنسان عما يحتاج إلى بيانه من علمه ، ومن العلم التفصيلي فيها ما هو مبين في علم النحو والصرف وفي علوم المعاني والبيان والبديع والوضع والاشتقاق وأصول الفقه- كالعام والخاص والمطلق والمقيد من الأخير مثلا- وأنت ترى أنك بهذا البيان الوجيز لمعنى الفرقان قد اتضح لك من دلالته على العلم الصحيح والحكم الرجيح ما كان خفيا ، وفصل منها ما كان مجملا .ولذلك نعده من تفسير اللفظ لا استطرادا أجنبيا ، ولا سيلاً أتيًّا ، كأكثر الذي يأتيه أكثر المفسرين من مباحث النحو وفنون البلاغة وغيرها .
وكما يكون الفرقان في مسائل العلوم وموادها من طبيعية وعقلية ولغوية ، وفي الموجودات التي استنبطت العلوم منها يكون في الأحكام والشرائع والأديان ، وفي الحكم بين الناس في المظالم والحقوق وفي الحروب .وقد أطلق الفرقان على أشهر الكتب الإلهية وهي التوراة والإنجيل والقرآن وغلب على القرآن{ تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا} [ الفرقان:1] لأن كلام الله تعالى يفرق في العلم والاعتقاد بين الإيمان والكفر والحق والباطل ، وفي الأحكام بين العدل والجور ، وفي الأعمال بين الصحيح والفاسد والخير والشر .وأطلق هذا اللفظ على يوم بدر كما سيأتي في هذه السورة مع بيان وجهه ومتعلق فصله وتفرقته .
فقوله تعالى:{ يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا} معناه إن تتقوا الله في كل ما يجب أن يتقى بمقتضى دينه وشرعه ، وبمقتضى سننه في نظام خلقه ، يجعل لكم بمقتضى هذه التقوى ملكة من العلم والحكمة تفرقون بها بين الحق والباطل ، وتفصلون بين الضار والنافع ، وتميزون بين النور والظلمة ، وتزيِّلون بين الحجة والشبهة ، وقد روي عن بعض مفسري السلف تفسير الفرقان هنا بنور البصيرة الذي يفرق بين الحق والباطل وهو عين ما فصلناه من الفرقان العلمي الحكمي ، وعن بعضهم بالنصر يفرق بين المحق والمبطل ، بما يعز المؤمن ويذل الكافر ، وبالنجاة من الشدائد في الدنيا ومن العذاب في الآخرة .وهذا من الفرقان العملي الذي هو ثمرة العلمي ذكر كل ما رآه مناسبا لحال وقته أو حال من لقنه ذلك ، ولم يقصد تحديد المدلول اللغوي ، ولا المعنى الكلي الذي هو ثمرة التقوى بأنواعها ، وهذا النور في العلم الذي لا يصل إليه طالبه إلا بالتقوى هو الحكمة التي قال الله فيها:{ يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولوا الألباب} [ البقرة:269] فهو كعهد الله في إمامة الناس بالحق لا ينال الظالمين لأنفسهم بالتقليد لغيرهم لاحتقارهم في جنب إطرائهم لمقلديهم ، بل هم لا يطلبونه ولا يقصدون الوصول إليه لأنهم صدقوا بعض الجاهلين في ادعائهم إقفال بابه ، وكثافة حجابه ، بل أصحابه هم الأئمة المجتهدون في الشرع والدين والواضعون للعلوم التي تنفع الناس ، وكان لشيخنا الأستاذ الإمام حظ عظيم منه .
أمر الله تعالى في مواضع كثيرة من كتابه باتقائه وباتقاء النار وباتقاء الشرك والمعاصي وباتقاء الفتن العامة في الدول والأمم ، وتقدم في وصايا هذا السياق- وباتقاء الفشل والخذلان في الحرب ، وباتقاء ظلم النساء ، وبين أن العاقبة في إرث الأرض للمتقين ، كما أن الجنة في الآخرة للمتقين ، وقال:{ ومن يتق الله جعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب} [ الطلاق:2 ، 3]{ ومن يتق الله فهو حسبه} [ الطلاق:3]{ ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا} [ الطلاق:5] وأمثال ذلك في التقوى العامة والخاصة وأجرها وعاقبتها كثير ، فمعنى التقوى العام اتقاء كل ما يضر الإنسان في نفسه وفي جنسه الإنساني القريب والبعيد وما يحول بينه وبين المقاصد الشريفة والغايات الحسنة والكمال الممكن ، ولذلك قال العلماء إنها عبارة عن ترك جميع الذنوب والمعاصي وفعل ما يستطاع من الطاعات .
وزدنا على ذلك اتقاء الأسباب الدنيوية المانعة من الكمال وسعادة الدارين بحسب سنن الله تعالى في الكون كالنصر على الأعداء ، وجعل كلمة الله هي العليا في الأرض ، كما هي في الواقع ونفس الأمر ، وكلمة الذين كفروا السفلى كذلك .وكمال ذلك يتوقف على العلم الواسع بالكتاب والسنة- وكمال هذا يتوقف على معرفة سنن الله تعالى في الإنسان مجتمعا ومنفردا كما أرشد إليه في آيات من كتابه ، ومن ثم كانت ثمرة التقوى العامة الكاملة هنا حصول ملكة الفرقان التي يفرق صاحبها بنوره بين الأشياء التي تعرض له من علم وحكم وعمل فيفصل فيها بين ما يجب قبوله وما يجب رفضه ، وبين ما ينبغي فعله وما يجب تركه ، وتنكير الفرقان للتنويع التابع لأنواع التقوى كالفتن في السياسة والرياسة والحلال والحرام والعدل والظلم ، فكل متق لله في شيء يؤته فرقانا فيه .وبذلك كان الخلفاء والحكام من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم من خلفاء العرب أعدل حكام الأمم في الأرض حتى في عهد الفتح ، قال بعض حكماء الإفرنج:ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب ، ولكنهم لم يتقوا فتن السياسة والرياسة لقلة اختبارهم فعوقبوا عليها بتفرقهم فضعفهم فزوال ملكهم .وكان من بعدهم من أعاجم المسلمين دونهم لجهلهم بكل نوع من أنواع التقوى الواجبة ، وحرمانهم من فرقانهم فهم يزعمون أنهم يجددون مجدهم مع جهل هذا الفرقان المبين ، وعدم الاعتصام بالتقوى المزكية للنفس ، والمؤهلة لها للإصلاح في الأرض ، بل مع انغماسهم في السكر والفواحش لظنهم أن الإفرنج قد ترقوا في دنياهم بفساقهم وفجارهم ، وإنما ترقوا بحكمائهم وأبرارهم ، الذين وقفوا حياتهم على العلم والعمل النافع .
{ ويكفّر عنكم سيئاتكم ويغفر لكم} هذا عطف على{ يجعل لكم فرقانا} أي ويمحو بسبب هذا الفرقان وتأثيره ما كان من تدنيس سيئاتكم لأنفسكم فنزول منها داعية العود إليها المؤدي إلى الإصرار المهلك ويغفرها لكم بسترها وترك العقاب عليها{ والله ذو الفضل العظيم} ومن أعظم فضله أن جعل هذا الجزاء العظيم بقسميه السلبي والإيجابي جزاء للتقوى وأثرا لها .