وما ذلك كله إلا بفضل من الله العزيز الحكيم ، وإن أعظم أسباب النصر بعد تأييد الله تأليف القلوب ، ولذا قال سبحانه في فضل نعمة التأليف
{ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .
( التأليف ) إيجاد ألفة بين الجماعات ، بحيث تألف كل واحد من الجماعة صاحبه ، كالألفة التي أنشأتها المؤاخذة بين المؤمنين ، وهو غير الاتحاد ؛ لأن الاتحاد الاجتماع على أمر بالرأي والنظر ، وقد لا يتألف واحد صاحبه ، وذلك قد يكون يجتمع على فكرة أو حزب ، ولا يشترط فيه تلاقي قلوب الاجتماع ، وائتلاف النفوس ، وإن ذلك لا يستطيعه إلا الله ، لقد ألف الله تعالى بين المؤمنين والمهاجرين حتى كان الأنصار يؤثرون على أنفسهم ، ولو كان بهم خصاصة ، وألف بين الأنصار بعضهم مع بعض ، حتى زال ما بين الأوس والخزرج ما كان بينهما من حروب ، وامتزجت نفوس القبائل المهاجرة ، حتى زالت من بينهم العصبية الجاهلية .
وإن تأليف القلوب لا يمكن أن يجيء إلى من عمل مقلب القلوب ، ومؤلف الأرواح ، وقد الله استحالة ذلك إلا من الله فقال:{ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} كما أن خلق شيء من العدم لا يكون إلا من خالق الوجود ،وكما أن الزرع لا يخرج من كمئه إلا من الله ، وكما أن الله يدرأ الإنسان كهذه كلها يكون التأليف بعد النفور ، والمودة بعد العداوة كذلك خلق الله تعالى هذا التأليف في النفوس ؛ لتكون الجماعة القوية المتألفة المتآزرة التي يكون فيها البنيان يشد بعضه بعضا ، وإن ذلك مستحيل من العبيد ، وقد بين الله استحالة ذلك ، فقال تعالى:{ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} أي لو ملكت كل ما في الأرض جميعا ، وأنفقته طالبا بهذا الإنفاق أن تؤلف القلوب ، ما استطعت لأنك لا تستطيع أنت ومن أن تخلقوا ذبابا ، والتأليف لا يملكه إلا الخالق ، فهو ليس في مقدور أحد من العباد ، ثم قال:{ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ} الاستدراك ، ارتقاء في القول من قدرة الإنسان العاجز ، إلى ما يملكه الخالق القادر .
وإن هذا التأليف كما قلنا هو الذي أوجد الجماعة الإسلامية الأولى التي كانت الخلية التي بذرت فيها بذرة الإسلام ، فنمت وترعرعت ، وكانت قوة الإسلام وقد قال الزمخشري في معنى ذلك التأليف:( التأليف بين قلوب من بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من الآيات الباهرة ؛ لأن العرب لما فيهم من الحمية والعصبية ، والانطواء على الضغينة في أدنى شيء وإبقائه بين أعينهم إلى أن ينتقموا لا يكاد يتألف منهم قلبان ، ثم ائتلفت قلوبهم على إتباع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واتحدوا ، وأنشأوا يرمون عن قوس واحد ، وذلك لما نظم الله من ألفتهم ، وجمع من كلمتهم ، وأحدث بينهم من التحاب والتواد وأماطه عنهم من التباغض والتماقت ، وكلفهم من الحب في الله والبغض في الله ، ولا يقدر على ذلك إلا من يملك القلوب فهو يقلبها كما ياء ، ويصنع فيها ما أراد ، وإنه إذا كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم خوارق عادات غير معجزة القرآن فهذا أشد خوارق العادات وضوحا وبيانا .
وإن الآية تدل على تأليف قلوب العرب الذين كانوا أول من خوطب بالرسالة ، يستوي في ذلك المهاجري والأنصاري والأوسي والخزرجي ، بهذا نما الإسلام قويا عزيزا غالبا بقوة الله وقدرته ) .
وقد ختم الله سبحانه وتعالى الآية الكريمة بقوله:{ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فهو عزيز يخلق العزة وأسبابها ، عالم يجمع القلوب بحكمته وتدبيره ، وهو الذي أحاط بكل شيء علما .
وفيه إشارة إلى أمرين:
أولهما – أن ائتلاف القلوب والتحاب والتواد ، والبعد عن التباغض والتنابز هما عماد العزة ، والتدبير الحكيم .
وثانيهما – إنه لا غلب ولا سلطان إلا بالتآلف ، وإن يصير المجتمع كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا .
اللهم أعد للمسلمين ائتلافهم ، واجمعهم على محبتك ومحبة رسولك ، وأزل ما بينهم من بغضاء وعداوة وأبدل بهما محبة وولاء ، إنه لا يقدر على ذلك إلا أنت ، كما ألفت القلوب ابتداء ، فأعدها بعزتك وحكمتك إنك سميع مجيب الدعاء .