( لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ) أي:لما كان بينهم من العداوة والبغضاء فإن الأنصار كانت بينهم حروب كثيرة في الجاهلية ، بين الأوس والخزرج ، وأمور يلزم منها التسلسل في الشر ، حتى قطع الله ذلك بنور الإيمان ، كما قال تعالى:( واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ) [ آل عمران:103] .
وفي الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما خطب الأنصار في شأن غنائم حنين قال لهم:يا معشر الأنصار ، ألم أجدكم ضلالا فهداكم الله بي ، وعالة فأغناكم الله بي ، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي ، كلما قال شيئا قالوا:الله ورسوله أمن .
ولهذا قال تعالى:( ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم ) أي:عزيز الجناب ، فلا يخيب رجاء من توكل عليه ، حكيم في أفعاله وأحكامه .
قال الحافظ أبو بكر البيهقي:أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، أنبأنا علي بن بشر الصيرفي القزويني في منزلنا ، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن الحسن القنديلي الإستراباذي ، حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن محمد بن النعمان الصفار ، حدثنا ميمون بن الحكم ، حدثنا بكر بن الشرود ، عن محمد بن مسلم الطائفي ، عن إبراهيم بن ميسرة ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال:قرابة الرحم تقطع ، ومنة النعمة تكفر ، ولم ير مثل تقارب القلوب ؛ يقول الله تعالى:( لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ) وذلك موجود في الشعر:
إذا مت ذو القربى إليك برحمه فغشك واستغنى فليس بذي رحم ولكن ذا القربى الذي إن دعوته
أجاب ومن يرمي العدو الذي ترمي
قال:ومن ذلك قول القائل:
ولقد صحبت الناس ثم سبرتهم وبلوت ما وصلوا من الأسباب
فإذا القرابة لا تقرب قاطعا وإذا المودة أقرب الأسباب
قال البيهقي:لا أدري هذا موصول بكلام ابن عباس ، أو هو من قول من دونه من الرواة ؟ .
وقال أبو إسحاق السبيعي ، عن أبي الأحوص ، عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - سمعته يقول:( لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ) الآية ، قال:هم المتحابون في الله ، وفي رواية:نزلت في المتحابين في الله .
رواه النسائي والحاكم في مستدركه ، وقال:صحيح .
وقال عبد الرزاق:أخبرنا معمر ، عن ابن طاوس ، عن أبيه ، عن ابن عباس قال:إن الرحم لتقطع ، وإن النعمة لتكفر ، وإن الله إذا قارب بين القلوب لم يزحزحها شيء ، ثم قرأ:( لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم )
رواه الحاكم أيضا .
وقال أبو عمرو الأوزاعي:حدثني عبدة بن أبي لبابة ، عن مجاهد - ولقيته فأخذ بيدي فقال:إذا تراءى المتحابان في الله ، فأخذ أحدهما بيد صاحبه ، وضحك إليه ، تحاتت خطاياهما كما يتحات ورق الشجر . قال عبدة:فقلت له:إن هذا ليسير ! فقال:لا تقل ذلك ؛ فإن الله تعالى يقول:( لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ) ! . قال عبدة:فعرفت أنه أفقه مني .
وقال ابن جرير:حدثنا أبو كريب ، حدثنا ابن يمان عن إبراهيم الخوزي عن الوليد بن أبي مغيث ، عن مجاهد قال:إذا التقى المسلمان فتصافحا غفر لهما ، قال:قلت لمجاهد:بمصافحة يغفر لهما ؟ فقال مجاهد:أما سمعته يقول:( لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم ) ؟ فقال الوليد لمجاهد:أنت أعلم مني .
وكذا روى طلحة بن مصرف ، عن مجاهد .
وقال ابن عون ، عن عمير بن إسحاق قال:كنا نحدث أن أول ما يرفع من الناس - [ أو قال:عن الناس] - الألفة .
وقال الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد الطبراني - رحمه الله -:حدثنا الحسين بن إسحاق التستري ، حدثنا عبيد الله بن عمر القواريري ، حدثنا سالم بن غيلان ، سمعت جعدا أبا عثمان ، حدثني أبو عثمان النهدي ، عن سلمان الفارسي:أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:إن المسلم إذا لقي أخاه المسلم ، فأخذ بيده ، تحاتت عنهما ذنوبهما ، كما يتحات الورق عن الشجرة اليابسة في يوم ريح عاصف ، وإلا غفر لهما ولو كانت ذنوبهما مثل زبد البحار .