أضف إِلى ذلك أنّ المؤمنين المخلصين قد أحاطوا بك من كل جانب ولم يدخروا وسعاً في الدفاع عنك ،فقد كانوا قبل ذلك متشتتين متعادين ،ولكنَّ الله شرح صدورهم بأنوار الهداية ( وألف بين قلوبهم ) .
وقد كانت الحرب لسنوات طويلة قائمة على قدم وساق بين طائفتي الأوس والخزرج وكانت صدورهم تغلي غيظاً وحقداً بعضهم على بعض بشكل لم يكن أي أحد يتصور أنّهم سيعيشون بعضهم مع بعض بالحب والصفاء في يوم ما ،وسيكونون صفاً واحداً متراصاً ،ولكن الله القادر المتعادل فعل ذلك ببركة الإسلام وفي ظلال القرآن ،ولم يكن هذا الأمر مقتصراً على الأوس والخزرج الذين هم من الأنصار ،بل كان ذلك بين المهاجرين أيضاً الذين جاءوا من مكّة ،إذ لم يكن بينهمقبل الإِسلامحب ومودّة ،بل كانت صدورهم مليئة بالبغضاء والشحناء أيضاً ،لكن الله عزّ وجلّ غسل كل تلك الأحقاد وأزالها بحيث تمكن معها ثلاثمائة وثلاثة عشر من أبطال بدر ،منهم حوالي ثمانين نفراً من المهاجرين والباقي من الأنصار ،فكانوا جيشاً صغيراً ،لكنّه متحدّ قوي استطاع أن يكسر شوكة العدوّ ويحطم قوته .
ثمّ تضيف الآية أن اتّحاد تلك القلوب ،أو إيجاد تلك الألفة ،لم يكن بوسائل مألوفة أو مادية ( لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألّفت بين قلوبهم ولكنّ الله ألّف بينهم ) .
إنّ الذين يعرفون حالة نفوس المتعصبين والحاقدين ،كأُولئك الذين كانوا في العصر الجاهلي ،يعرفون كذلك أن تلك الأحقاد والضغائن لم يكن بالإِمكان إزالتها ،لا بالمال ولا بالجاه والمقام ،لأنّها كانت لا تزول عندهم إلاّ بالانتقام الذي يتكرر بصورة متسلسلة فيما بينهم ،وفي كل مرّة يكون في صورة أبشع وأكثر وحشية وإجراماً ،والأمر الوحيد الذي أمكن بسببه قلع تلك الجذور الفاسدة من أصولها ،هو إحداث ثورة عارمة وتغيير شامل في الأفكار والأرواح والعقائد ،ثورة تصنع تحوّلاً في شخصياتهم وتبدل أساليب تفكيرهم ،وترفعهم عن الحضيض الذي كانوا فيه ،لتتجلى لهم أعمالهم السابقة في وجهها الكالح القبيح ،فيطهروا بذلك أنفسهم ،ويدرأوا عنها الأحقاد والأوساخ والعصبية القبلية العمياء .
وهذه أُمور لا يمكن إيجادها بالثروة ولا بالمال ،بل في ظلال الإِيمان والتوحيد الخالص فحسب .
وتضيف الآية معقبة في الختام ( إنّه عزيز حكيم ) .
فعزته تقتضي عجز الآخرين من الوقوف في مواجهته ،وحكمته تقتضي أن تكون كل أُموره جاريةً وفق حساب دقيق ونظام صحيح ،ولهذا فإنّ الخطة الدقيقة وحدت القلوب المتنافرة المتفرقة وجعلتها تنصاع للنّبي( صلى الله عليه وآله وسلم ) لينشروا أنوار الهداية في كل أرجاء العالم .
ملاحظتان
1قال بعض المفسّرين: إنّ الآية محل البحث تشير إِلى الخلافات بين الأوس والخزرج ،الذين هم من الأنصار فحسب ،ولكن نظراً إِلى أنّ المهاجرين والأنصار نهضوا جميعاً لنصرة النّبيّ فيتّضح اتساع مفهوم الآية .
ولعل أُولئك كانوا يتصورون أنّ الخلافات كانت قائمة بين الأوس والخزرج دون غيرهم ،مع أنّه كانت اختلافات كثيرة في المستويات الطبقية والاجتماعية بين الفقراء والأغنياء ،والكبار والصغار ،بين هذه القبيلة وتلك ،تلك الخلافات و«الانشقاقات » أذهبها الإِسلام ومحا آثارها ،كما يقول القرآن الكريم في مكان آخر: ( واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً ){[1575]} .
2إنّ هذا القانون لا يختص بالمسلمين الأوائل فحسب ،فاليوم حيث يبسط الإِسلام ظلاله على ثمانمائة مليون مسلم في أنحاء العالم ،وهم من مختلف العناصر والأقوام المتباعدة والمجتمعات المتنوعة .إذ لا يمكن إيجاد أية حلقة اتصال بين كل هؤلاء سوى حلقة الإِيمان والتوحيد ،فإنّ الأموال والثروات والمؤتمرات لا يمكنها أن تفعل شيئاً مهماً في هذا المجال ،بل ما يمكن أن يوحدهم هو إيقاد شعلة الإِيمان أكثر في قلوب هؤلاء كما حصل عند المسلمين الأوائل ،لأنّ النصر لا يتحقق إلاّ عن هذا الطريق ،وهو طريق الأخوة الإِسلامية بين جميع الناس .