وإن الله تعالى حافظ دينه ، وإذا كان المسلمون قد غلبوا على أمرهم بعمل حكامهم ، فإنه لا تزال طائفة منهم قائمة على الحق تنادي به وتحفظه . بعد أن بين الله الضلال الذي أضل به الأحبار والرهبان اليهود والنصارى إذ اتخذوا أربابا من دون الله ، وذكر أن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم قد أرسل بالهدى والدين الحق ليزيل ضلالهم ، وليظهر بالحق على الدين عاد إلى الكلام في الأحبار وكيف فسدوا وأفسدوا ، فقال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ( 34 ) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ ( 35 ) .
الخطاب للذين آمنوا والنداء لهم بالبعيد ، والخبر عن أحبار اليهود ورهبان النصارى ، فلماذا كان الإخبار للذين آمنوا ؟ ، ألمجرد القصص الحكيم الذي تكون فيه العبرة أم له ولأمر آخر يطويه الإخبار بقول إن القصص لا ريب فيه العبرة كما قال تعالى:{ لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب . . . . . . . . . . . . . . . . . . ( 111 )} ( يوسف ) ، ولكنه يطوي أمرين آخرين ، وهما .
أولا:ألا يثق المؤمنون بهم بما يلبسونه من طقوس ، ومسوح يلقون بها بين الناس المهابة منهم والثقة فيبين الله للمؤمنين أنهم يتجرون بعلمهم ، ويأخذون الرشا وسحت المال ، والاتجار بالعلم في ذاته غير جائز ، فكيف إذا كان الثمن رشا وبراطيل وسحت المال .
وثانيا:ليكون ذلك تحذيرا لمن يتعلمون علم الإسلام بألا يتخذوه متجرا يتجرون به ، فعلم الإسلام أعلى ما يدخره العلماء فلا يبيعونه ولا يحطون به على هوى الحكام ، ولقد قال في ذلك الحافظ ابن كثير:( والمقصود التحذير من علماء السوء وعباد الضلال كما قال سفيان الثوري:من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود ، ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى . . . . . . والحاصل التحذير من التشبيه بهم في أقوالهم وأحوالهم ، ويقول في ذلك الفقيه عبد الله بن المبارك:
( وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها )
{ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ} معناها يأخذونها بغير مسوغ ديني ، وعبر عن الأخذ بالأكل لأن الأكل في الأصل هو أوضح الغايات ، ولأنه ينبئ عن الشره والطمع في الأموال وأخذها بغير حق ، وذلكم أنهم كانوا يأخذون سحت الأموال ، ويبيعون ما يحلونه لأنفسهم من الدين ، ويأخذون البراطيل ، وكلما زادت ثقة الناس فيهم ازدادوا طمعا في أموالهم ، بل فيما هو أفحش من باطل الأموال ، وبعد أن ضعف الدين في قلوب علمائنا كان منهم من يفعل مثل فعلهم ، ويقول في ذلك ابن كثير:( وذلك أنهم يأكلون الدنيا بالدين ، ومناصبهم ، ورياستهم في الناس يأكلون بها أموالهم ، كما كان لأحبار اليهود على أهل الجاهلية شرف ، ولهم عندهم خرج وهدايا وضرائب تجيء إليهم ، فلما بعث رسوله صلى الله عليه وآله وسلم استمروا على ضلالهم وكفرهم وعنادهم طمعا منهم أن تبقى لهم تلك الرياسات فأطفأها الله بنور النبوة ، وسلبهم إياها ) .
وإن نور النبوة المحمدية بعد أن بزغ ، وعم ضياؤه كان مزيلا لما يشيعه الأحبار والقسيسون من إفساد وضلال ، ولذلك لما فتك النصارى بالمسلمين في الحروب الصليبية كان بعده الإصلاح المسيحي ، مع أن حال المسلمين لم تكن كما أراد لها الإسلام .
كلمة ( والأحبار ) فسرناها من قبل بالعلماء الذين يحبرون العلم ، ويزينونه بحسن الأداء والبيان واللسان والقلم ، ولكن بعض المفسرين يفسرون الأحبار بأنهم علماء اليهود ، ويشير إلى ذلك قوله تعالى:{ لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت . . . . . . . . . . .( 63 )} ( المائدة ) وأما علماء النصارى فيقال عنهم قسيسون ، ويشير إلى ذلك قوله تعالى:{. . . . . . . .ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ( 82 )} ( المائدة ) والرهبان عباد النصارى ولعلهم يقابلون الربانيين في اليهودية ولا مانع من هذه التسمية ، ولعن إطلاق الأحبار بما يسع القسيسين ليكون سيرا على الأصل اللغوي من معنى كلمة الأحبار .
وعبر سبحانه وتعالى عن كل كسب خبيث بقوله تعالى:{ بالباطل} ؛ لأن الباطل يشمل أخذ المال بغير حق ، يبرر الأخذ بالخديعة أو بالغش والتدليس والاتجار بدين الله تعالى .
ومع أنهم كانوا يخدعون الناس بتدينهم الآنف ، وخصوصا الرهبان كانوا يصدون عن سبيل الله تعالى ، فقال تعالى:{ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ} فكأنهم يتخذون مسوحهم ورياستهم الدينية ، لابتزاز الأموال ، وأخذها بغير حقها ، والعبث بها ، واكتنازها متخذين في ذلك مظاهرهم ذريعة لمآثمهم ، يصدون ويمنعون أتباعهم الذين اتخذوهم فريسة لأهوائهم من أن يتبعوا الحق ، والنور الذي جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وهو سبيل الحق الذي لا يمترى فيه عاقل ، ولا ذو قلب ، وبصر ، كما قال تعالى:{ وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله . . . . . . . ( 153 )} ( الأنعام ) .
وإن الأموال التي يأخذونها يجمعونها ، ويكنزونها ، ومأواهم جهنم ، ولذا قال سبحانه بعد ذلك:
{ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيم} .
وهذا النص الكريم يبين أن جمع المال لا يجدي ، ويضر صاحبه ، ومآله شر في الدنيا والآخرة ، والكنز في اللغة:الضم والجمع لكل شيء ثمين سواء دفن في باطن الأرض ، أو لم يدفن ، ولكن شاع استعماله فيما يدفن في باطن الأرض ، ولكن شيوعه لا يمنع أصل إطلاقه ، ولا يمنع الشيوع من أن يطلق على الأصل اللغوي القوى ، ولذا قال شيخ المفسرين الطبري:الكنز كل شيء مجموع بعضه إلى بعض في بطن الأرض كان أو على ظهرها .
وظاهر الآية يدل على أنها عامة تعم الأحبار والرهبان وغيرهم من المسلمين وغيرهم ، ولكمنها سيقت في مقام الكلام على أكل الرهبان والأحبار لأموال الناس بالباطل ، ولا يمنع ذلك من عموم ؛ لأن لفظها عام ، والعبرة بعموم اللفظ ، وقد جرت مناقشة في ذلك بين أبي ذر الصحابي الجليل ، ومعاوية بن أبي سفيان ، ولنذكر بعضها:
قال الحافظ ابن كثير:( كان من مهب أبي ذر رضي الله عنه تحريم ادخار ما زاد على نفقة العيال ، وكان يفتى بذلك ، ويحث الناس عليه ويأمرهم به ، ويغلظ في خلافه ) .
كان الصحابي الطاهر المؤمن يعيش في الشام ، والأمير معاوية ، وأبو ذر يجهر برأيه ويحث الناس عليه ويستنكر النعيم الذي يرفل فيه معاوية ، ومن يواليه ، فأبلغ أمره إلى أمير المؤمنين عثمان ذى النورين ، فأحضر أبا ذر ، فاختار أبو ذر أن يقيم بالربذة ، ولكن الراجح من الروايات أن عثمان هو الذي أنزله بها ، وبها مات رضي الله عنه .
وقد روى البخاري عن زيد بن وهب:مررت بالربذة ، فإذا بأبي ذر فقلت:ما أنزلك هذا المنزل ؟ ، قال:كنت بالشام فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية:{ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ} . فقلت:نزلت فينا وفيهم ، فكان بيني وبينه في ذلك ، فكتب إلى عثمان يشكوني فكتب إلي عثمان أن أقدم المدينة ، فقدمتها ، فكثر علي الناس كأنهم لم يروني قبل ذلك ، فذكرت ذلك لعثمان ، فقال:إن شئت تنحين فسكنت قريبا ، فقال:فذاك الذي أنزلني هذا المنزل ، ولو أمر علي عبد حبشي لسمعت وأطعت .
وإن هذا الحديث يدل على أنه اختار هذا البعد ، وربما يكون قد اختار الربذة بالذات .
وفي المناقشة بينه وبين معاوية أغلظ ، وقد أراد معاوية أن يغويه بالمال أو يختبره وهو عنده ، أيوافق عمله أم لا ، فبعث إليه بألف دينار ، ففرقها على الفقراء من يومه ، ثم بعث إليه الذي أتاه بها ، فقال:إن معاوية إنما بعثني إلى غيرك فأخطأت ، فهات الذهب ، فقال:ويحك إنها خرجت ، ولكن إذا جاء مالي حاسبتك . وفي الحق أن أبا ذر قد أصاب كل الإصابة في قوله:إن الآية تعم الأحبار والرهبان وأتباع محمد صلى الله عليه وآله وسلم وأخطأ معاوية ، وما لمعاوية وفقه القرآن ! .
ويحق إذن أن نقول أن الآية عامة لا تخص الأحبار والرهبان ، ولا نسير إلى المدى الذي يسير إليها سيدنا أبو ذر الصحابي المخلص بحيث لا يبيح لذي المال إلا ما يكفيه وعياله كما كان يفعل في ذات نفسه ، ويدعو إليه . روى الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه كان مع أبي ذر ، فخرج عطاؤه ، ومعه جارية ، فجعلت تقضي حوائجه ، فقضت منها سبعة ، فقلت:لو ادخرت لحاجة بيوتك ، وللضيف ينزل بك ، فقال:إن خليلي أوصاني أن أيما ذهب أو فضة أوكئ عليه فهو جمر على صاحبه حتى يفرغه في سبيل الله إفراغا .
ولقد قال ابن عبد البر:( وردت عن أبي ذر آثار كثيرة تدل على أنه كان يذهب إلى أن كل مال مجموع يفضل عن القوت وسداد العيش فهو كنز يذم فاعله ، وأن آية الوعيد نزلت في ذلك ، وخالفه جمهور الصحابة ومن بعدهم ، وحملوا الوعيد على معاني الزكاة ) .
ونحن نتبع جمهور الصحابة ؛ وذلك لأنه إذا لم يبق شيء من المال بعد نفقاته ونفقات عياله لم يكن ثمة زكاة ، لعدم وجود وعاء لها ، فشرعية الزكاة توجب مالا مدخرا حولا ، وذلك ينافي ما ذهب إليه أبو ذر رضي الله عنه .
وأيضا فإن الأخذ برأي الصحابي الجليل ينافي الميراث ؛ لأن الميراث يكون في المال الذي يبقى ، وقد منع الصحابي الجليل بقاء أي مال يورث أو تجب فيه الزكاة .
وأيضا فإن معنى رأيه إلغاء الوصية مع الميراث ، وقد شرعت الوصية بالقرآن ، وبالحديث"النبوي ، فقد روى أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد قال:( إن الله تصدق عليكم في آخر أعماركم بثلث مالكم فضعوه حيث شئتم ) ( 1 ){[1227]} .
ولقد كان من الصحابة منت لهم ثروات في عصر النبي صلى الله عليه وآله وسلم فما استنكرها عليهم ، فعثمان كان ثريا وتاجرا ، وعبد الرحمن بن عوف كان ثريا وتاجرا ، وأبو بكر وعمر كانا من ذوي الأموال .
وإنه لو أخذ برأي أبي ذر ما كانت التجارات ، فأسواقها تقوم على رؤوس الأموال ، وما كانت الصناعات ، فهي أيضا تقوم على رؤوس الأموال .
من أجل هذا كان لا بد من تخصيص كنز الذهب والفضة الذي أوعد الله تعالى ، وقد خصصوه من ذات النص القرآني فقد قال تعالى:{ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ} ، إن الوعيد على الأمرين مجتمعين لا على أمر واحد منهما . فليس الوعيد على الكنز ، وإنما الوعيد على الأمرين معا ، على الكنز وعلى عدم الإنفاق في سبيل الله تعالى ، فإذا وجدا معا كان التبشير بالعذاب الأليم ، وكان الوعيد الشديد لمن يمنع الإنفاق مع أنه يكنز المال ، ولذا تضاربت الروايات على أن من يعطي الزكاة لا يكون عليه إثم الكانزين ، بل إنه لا يعد كانزا لأمن يخرج حقه في سبيل الله ، وإنما الكانز هو الجامع للمال الذي يمنع حقه .
وقد ورد ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، بأن الإنفاق يمتنع إثم الكانز الذي يجمع المال ، وإنما ورد في الأثر الصحيح:( نعم المال الصالح في يد العبد الصالح ) ( 1 ){[1228]} .
ويجب أن نشير هنا إلى أن الآية تشير إلى أن المال لا يكنز من الذهب والفضة ، بل يجب أن يخرج للاستغلال الحلال بالاتجار ، والصناعة ، والزراعة ، ولا يبقى في الخزائن ، كالماء العطن الذي لا ينتفع به ، وفي الآية إشارات بيانية:
منها – قوله تعالى:{ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ} فإن في الآية تهكما عليهم ؛ لأن العذاب الأليم لا يبشر به ، بل يهدد به ، وفي التعبير بقوله تعالى:{ فَبَشِّرْهُم} تهكم بهم ، إذ إنهم كانوا يرتقبون خيرات في الآخرة من تكاثرهم في المال واكتنازه فجاءت العقبى غير ما يرتقبون .
ومنها – أن الضمير أعيد على الذهب والفضة بضمير المؤنث في قوله:{ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ} ، لملاحظة المعنى وهو الدنانير من الذهب ، والدراهم من الفضة ، وهي جمع ، فأعيد عليها بضمير المؤنث ، وهو ما لا يعقل يكون بالضمير المؤنث .
والثالثة – أنه ذكر الكنز في الذهب والفضة دون غيرهما مع أن الأموال كثيرة ، وكان المال يطلق على النعم دون غيرها ، وأجيب عنها بأن الذهب والفضة تطلق على كل المال ، وهما مقياس التقدير لكل الأموال ، وقد قال في ذلك الزمخشري:إنهما قانون التمول وأثمان الأشياء ، ولا يكنزهما إلا من فضلا عن حاجته ، ومن كثرا عنده حتى يكنزهما ، لم يعدم سائر أجناسي المال ، فكان ذكر كنزهما دليلا على ما سواهما .
هذا معنى الآية الكريمة فيما يظهر لنا ، ويجب أن ننبه إلى أنه لا يصح النهم في المال إلا للقيام بمصلحة عامة ، ولا يصح أن يكون المال مطلبا ذاتيا ، وغرضا مقصودا لذاته لا للتمكن من النعم ، فإنه حينئذ يلهى عن المقاصد السامية ، كما قال تعالى:{ ألهاكم التكاثر ( 1 ) حتى زرتم المقابر ( 2 )} ( التكاثر ) ( 1 ){[1229]} ، ولأنه يصير عبدا للمال ، لا سيدا متصرفا ، والنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول/:( تعس عبد الدرهم ) – وقد روى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال:( تبا للذهب تبا للفضة ) قالها ثلاثا فقالوا له:أي مال نتخذ:قال:( لسانا ذاكرا وقلبا خاشعا ، وزوجة تعين أحدكم على دينه ( 2 ){[1230]} وقال صلى الله عليه وآله وسلم:( من ترك صفراء أو بيضاء كوى بها ) ( 3 ){[1231]} .