{يَكْنِزُونَ}: الكنز: جعل المال بعضه على بعض وحفظه .
بشرى للذين يكنزون الذهب والفضة بالعذاب
ويستمر القرآن في استعراض مظاهر الانحراف لدى «المجتمع الكتابي » من خلال ما يتمثل به من النماذج البشرية المتنوعة القائمة على شؤون هذا المجتمع ،في عملية تضليل وانحراف ،وذلك بفعل المواقع المتقدمة التي تملكها على هذا الصعيد ،ليدلّل على أن موقف الإسلام من هؤلاء ليس ناشئاً من الاختلاف في القضايا التي يثيرها الكتاب الذي يؤمنون به في ما أنزل على موسى وعيسى( ع ) ،لأن القرآن يعترف به كوحيٍ منزّل من الله ،وإن كان هناك بعضٌ من التحريف الذي قام به هؤلاء الذين يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً ،بل هو ناشىء من استغلالهم الكتاب كواجهةٍ للابتزاز والتضليل واللعب بحياة الناس .
تحوّل الرهبنة إلى مظهر استغلال
وفي هذا الجوّ ،يقدّم لنا القرآن هؤلاء الذين يملكون الصفة الرسميّة للدين ،ويجعلون من أنفسهم هُداةً للناس ،في ما يحملونه من علم الكتاب ،أو في ما يمارسونه من تدرّبٍ على الجهاد الداخليّ ،بالعزلة الروحية التي يفرضونها على حياتهم ،أو بالتقشف القاسي الذي يخضعون له أجسادهم ،أو بالبعد عن شهوات الحياة وزخارفها ،وما إلى ذلك من أوضاعٍ وممارساتٍ تجعل منهم القدوة المُثلى في نظر الناس ،بحيث يخيّل إليهم أنهم وكلاء الله على الأرض ،فهم الذين يتقرب الناس بهم إلى الله ،وهم الذين يملكون توزيع حصص الجنة عليهم ،كما يملكون توزيع حصص النار لمن لا يرضون عنهم .وهكذا يستطيع هذا الانطباع الذي يحمله الناس عنهم ،أن يؤكد تأثيرهم في المجتمع وسيطرتهم عليه ،وبذلك استطاعوا أن يطوّروا الأساليب من أجل استغلال مراكزهم ،للاستيلاء على أموال الناس بطرقٍ غير شرعيّة ،تتنوع حسب تنوّع المراحل والأجيال .فقد كان البعض منهم يبيع أراضي الجنة ،وبعضهم يبيع صكوك الغفران ،وبعضهم يمهّد للظلَمَة أن يبسطوا سلطانهم على المستضعفين من الناس .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} وذلك من خلال ما يتيحه لهم مركزهم الديني المتصل بالغيب الذي يخيل للناس من خلاله أنهم يملكون عالم الغيب كله ،فيفرضون عليهم باسم الغيب ما يريدون أن يحصلوا عليه منهم من أموالٍ وشهواتٍ ،مستغلّين سذاجة الناس وطيبتهم وجهلهم .
ومن خلال ذلك ،يريد القرآن أن يوحي إلينا بعدم الاستسلام الكلي للفئة التي تملك هذا المركز الرسميّ للدين ،بل علينا أن نواجهها بحذرٍ ووعيٍ ومراقبةٍ ،لئلا نعيش مثل هذه التجربة في واقعنا العملي ،فنقع في مثل ما وقعوا فيه ،وننحرف في ما انحرفوا فيه .ولا يريد القرآن أن يعقّد الإنسان تجاه هذه الفئة من الناس ليقضي على الثقة التي يحصلون عليها منهم ،ولكنه يريد أن يفتح عيونهم على الواقع ،فيثير فيهم الاهتمام بدراسته بطريقةٍ واعيةٍ تضع في حسابها كل الاحتمالات ،لتتحرك في إعطاء الثقة للآخرين لهؤلاء أو لغيرهم ،من موقع دراسةٍ وتدقيق ،انطلاقاً من إمكانات الخطأ لكل إنسانٍ غير معصوم ،ومن وجود تجارب عمليّة لمثل هؤلاء المنحرفين في الماضي والحاضر ،ليتعلم الناس أن يواجهوا الحياة بوعيٍ ،حتى في داخل الأهواء التي تأخذ لنفسها صفة القداسة ،ليكون التأييد عن وعيٍ وقناعةٍ ،وليكون الرفض عن دراسةٍ واطلاعٍ ،بعيداً عن كل حكمٍ عشوائيٍّ ،أو تصرّفٍ غير مسؤول .
مسؤولية الموقع
وربما نحتاج إلى إثارة ملاحظةٍ حول كلمة «الباطل » لنستوحي منها كل الوسائل غير الشرعية التي يتخذونها سبيلاً لأخذ الأموال من الناس بغير حقّ ،فلا تشمل الهدايا والعطايا التي يقدمها الناس إليهم عن طيب خاطر ،إلا في ما إذا لم يكونوا بالمستوى الذي يفرضه مركزهم من خدمة الناس في دينهم وفي تثقيفهم وتوعيتهم ،كما في الكثيرين الذين يتخذون من الموقع الديني وسيلةً للبطالة الاجتماعية ،فلا يشعرون بأيّة مسؤوليّة تجاه الناس في مجال الدعوة والتبليغ ،بل يحاولون أن يتحدثوا معهم من مركزٍ فوقيٍّ يوحي إليهم بالتَّرفّع والمنّة لأقل خدمةٍ يقدمونها إليهم ،ويعتبرون أن مستواهم لا يقترب من مستوى الناس البسطاء الفقراء ،فيتقربون من المترفين والأغنياء ،ويبتعدون عن المؤمنين الذين يدعون ربهم بالغداة والعشيّ يريدون وجه الله .إن مثل هؤلاء لا يستحقون المال الذي يأكلونه حتى إذا كان من الصدقات والضرائب الشرعيّة ،لأنهم لم يقدّموا للناس ولله شيئاً في مقابل ذلك ،ولولا الموقع الديني الذي يشغلونه لما أعطاهم الناس شيئاً من ذلك ،ما يعني أن العطاء هو للموقع لا للشخص .وبذلك نفهم ما معنى مسؤولية الموقع في حركة الشخص في الحياة .{وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} لأنهم لا يريدون للحياة أن تسير في طريقه ،بل يريدون لها أن تخضع لشهواتهم وأطماعهم .
الذين يكنزون الذهب والفضة
{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} وهذا نموذج آخر من نماذج الانحراف الذي يلتقي بالفريق الأول ،وقد يتمثل في غيره ،وهو نموذج هؤلاء الذين يعيشون الحياة من أجل الحصول على المال بأيّة وسيلةٍ ومن أيّ مكان ،لأن هدفهم هو ادّخار المال واكتنازه وزيادته ،لا لهدفٍ كبيرٍ يتصل بخدمة الحياة في قضاياها الحيويّة أو بخدمة الإنسان في مشاكله المتنوعة ،بل كل ما هناك هو إرضاء عقدة الطمع والكبرياء في ذواتهم وشهوة التملّك في نفوسهم ،فهم يجمعون ويجمعون ثم يدّخرون ويكنزون الذهب والفضة من طريق مشروع أو غير مشروع{وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} في ما يمثله «سبيل الله » من أفقٍ واسعٍ لكل المعاني الروحيّة والاقتصادية والتربوية ونحو ذلك مما يعتبر خدمةً لله بخدمة عباده ،وجهاداً في سبيله ،من خلال تأكيد القواعد التي أراد للحياة أن تقوم عليها .
الوجهة التشريعية لتحريم اكتناز الذهب والفضة
والسؤال الآن: ما هو مصداق هذه الآية في الحياة العامة التي نعيشها ؟
هل هم الذين يجمعون المال ويخرجون منه حقوق الله ،ثم يدّخرونه من أجل تقوية مركزهم الاقتصادي الذي يعطي القيمة لصاحبه ،بقدر ما يملك من مالٍ في أسواق المال ،أو من أجل تأمين مستقبلهم الذي يتقاعدون فيه عن العمل ليتحوّلوا إلى عنصر استهلاكيّ لا إنتاجي ،فيحتاجون لما يحفظ لهم ماء وجههم ،أو يحقّق لهم استمرار حياتهم بشكل طبيعيّ ؟
وقد قيل إن أبا ذرّ الغفاري ( رضوان الله عليه ) واجه معاوية وعثمان بهذه الآية ،وكانت وجهة نظر معاوية أنها مختصة بأهل الكتاب ،وكان جواب كعب الأحبار في مجلس عثمان ،أنها لا تشمل الذين يخرجون الزكاة ،وكان ردّ أبي ذر حاسماً في رفض الجوابين .
أو هم هؤلاء الذين يجمعون المال ويدّخرونه حبّاً في المال ،وبخلاً به ،من خلال شهوةٍ ذاتيّةٍ في طلبه ،فلا يدفعون منه شيئاً من حقوق الله أو من حقوق الناس ؟
وبكلمةٍ موجزة ،هل هي من الآيات التي تتضمن تشريعاً عاماً يختلف عن التشريعات التفصيلية في نطاق الضرائب الشرعية كالزكاة والخمس ونحوهما ،أو هي من الآيات التي تتحرك في أجواء هذه التشريعات لتعالج مسألة نوعية العقاب الذي يترتب على الممتنعين عن دفع الضرائب الشرعيّة ،أو هي واردة في اتجاه آخر ؟
ربما يجد بعض المحققين من المفسّرين ،أن الآية تعالج قضيّة إخفاء المال عن الأنظار ،والامتناع عن تحريكه في أجواء السوق التجاريّة ،أو في مجالات الإنفاق العام الذي قد يتمثل في الحقوق الشرعية الواجبة ،أو في ما يفرضه وليّ الأمر من إنفاقات طارئة بسبب ما يحتاجه أمر الإسلام والمسلمين ،ما يجعل من إخفائه مانعاً عن الاطلاع عليه للاستفادة من ذلك في مواجهة المشاكل الاقتصادية التي تحدث لأولياء الأمور ،ويوضّح هذا المحقق ،وهو العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان هذه الفكرة فيقول: «فالآية إنما تنهى عن الكنز لهذه الخصيصة التي هي إيثار الكانز نفسه بالمال من غير حاجةٍ إليه ،على سبيل الله مع قيام الحاجة إليه ،وناهيك أن الإسلام لا يحدّ أصل الملك من جهة الكمّية بحدٍّ ،فلو كان لهذا الكانز أضعاف ما كنزه من الذهب والفضة ولم يدّخرها كنزاً بل وضعها في موضع الجريان يستفيد به لنفسه ألوفاً وألوفاً ،ويفيد غيره ببيع أو شراء أو عمل وغير ذلك ،لم يتوجّه إليه نهيٌ دينيٌّ ،لأنه حيث نصبها على أعين الناس وأجراها في مجرى النماء الصالح النافع لم يخفها ولم يمنعها من أن تصرف في سبيل الله ،فهو وإن لم ينفقها في سبيل الله ،إلا أنه بحيث لو أراد وليّ أمر المسلمين لأمره بالإنفاق في ما يرى لزوم الإنفاق فيه ،فليس هو إذا لم ينفق وهو بمرأى ومسمع من وليّ الأمر بخائن ظلوم ..»
ثم يتابع قوله: «فالآية ناظرة إلى الكنز الذي يصاحبه الامتناع عن الإنفاق في الحقوق الماليّة الواجبة ،لا بمعنى الزكاة الواجبة فقط ،بل بمعنى يعمّها وغيرها من كل ما يقوم عليه ضرورة المجتمع الديني من الجهاد وحفظ النفوس من الهلكة ونحو ذلك » .
ونلاحظ على ذلك ،أن هذا الرأي ينطلق من الاستغراق في كلمة «الكنز » على أساس ما تتضمنه من معنىً لغوي ،بما توحيه الكلمة من معنى ،لتتحرك في أجواء الامتناع عن بذلها في سبيل الله .ولكننا نستوحي منها التحدّث عن ظاهرةٍ عامة منحرفةٍ تتمثّل في أولئك الذين يعيشون الحياة للمال ويعتبرون جمعه قيمةً حياتيّة ،بعيداً عن أيّ هدف كبير يتعلق بحياة الناس ،الأمر الذي يدفعهم إلى أن يحصلوا عليه بالحق ،أو بالباطل ،كهؤلاء الأحبار والرهبان ،ويستغرقوا فيه ،كما لو كان هو الهدف للحياة ،فيؤدي ذلك إلى أن يمنعوه عن المجالات العامة التي أراد الله للمال أن ينفق فيها ،ممّا أمر الناس أن ينفقوه في سبيله ،وهذا هو الجوّ الذي أراد الصحابيّ الجليل أبو ذر الغفاري أن يحرّكه في حياة المجتمع آنذاك ،لأن طريقة الحكم في توزيع الأموال كانت منطلقةً من الإثرة التي تدفع الحاكم إلى أن يتصرف بالمال على هواه ،أو يخصَّ به ذوي قرباه ،وتبعث الناس على اكتناز الأموال ،واعتبارها قيمةً اجتماعيّةً للتفاضل على حساب أهداف المجتمع الإسلامي وقيمه .
أمّا الحديث عن الكنز بمعنى الادّخار الذي يدفع الإنسان إلى حبس المال في صناديق مقفلةٍ ،فلم يكن ظاهرةً بارزةً لدى الذين يحبون تنمية أموالهم تبعاً لأطماعهم ،لأن ذلك لا يحقق لهم الغاية المطلوبة في تكثير المال وازدياده ،فكيف يمكن أن يكون ذلك هو المعنى المقصود من الآية التي جاءت لتعالج حالةً عامّةً في حياة الناس ؟!
ومن خلال ذلك ،فإننا نستوحي منهاوالله العالمالفكرة التي تؤكد على الانحراف بالمال عن هدفه ،من حيث هو طاقةٌ من طاقات الأمّة التي تتحرك في نطاق الأفراد الذين يملكونها من أجل أن يحقّقوا الغايات التي أمرهم الله بتحقيقها ،ولكنهم يحوّلونها إلى أطماعهم الفرديّة ،وأنانياتهم الشخصية ،وشهواتهم الذاتية ،فهم يجمعونها لتحقيق حالةٍ عامّةٍ .فهي تعالج الروحية التي يعيشها هؤلاء في ما يترتب عليها من ممارسةٍ وعملٍ ،وليست في مجال الحديث عن التفاصيل ،من حيث طبيعة الموارد التي يتمثل فيها الإنفاق في سبيل الله ،في ما يقتصر على الضرائب الشرعية المفروضة الخاصة ،أو في ما يعمّها ويعمّ غيرها مما يبذله الإنسان من خلال ذاته في ما تدعو إليه الحاجة العامة ،كما في حالات الجهاد أو الانهيار الاقتصادي أو المجاعة وما إلى ذلك .
عذاب الذين يكنزون
وربما كان من الطبيعيّ لأمثال هؤلاء ،أن لا يكونوا سائرين على خط الإيمان في حياتهم ،لأن المؤمن الحقّ ،هو الذي يستهدف غايات الإيمان في غاياته ،فيعتبر الملكية للمال وظيفةً اجتماعية ،لا امتيازاً شخصياً ،وبذلك فإنه يعتبره أمانة الله عنده ،ليكون حاله حال الأمانات الخاصة التي ينبغي للإنسان أن لا يتصرف فيها إلا بما ينسجم مع رضا أصحابها وتوجيهاتهم .ومن هنا يعتبر سبيل الله في الإنفاق ،هو السبيل الذي يجب أن يحكم ملكيته للمال ،فليس له أن يبتعد عنه ولا أن يقترب من غيره ،لأن معنى ذلك اتباع سبيل الشيطان ،في ما يتبع الناس من سبيل الانحراف{فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} لأنهم تمرّدوا على الله ،فخالفوا أمره ،وواقعوا نهيه ،واتبعوا خطوات الشيطان الذي يأمرهم بالمنكر وينهاهم عن المعروف