قال السدي:الأحبار من اليهود ، والرهبان من النصارى .
وهو كما قال ، فإن الأحبار هم علماء اليهود ، كما قال تعالى:( لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت ) [ المائدة:63] والرهبان:عباد النصارى ، والقسيسون:علماؤهم ، كما قال تعالى:( ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون ) [ المائدة:82] .
والمقصود:التحذير من علماء السوء وعباد الضلال كما قال سفيان بن عيينة:من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود ، ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى . وفي الحديث الصحيح:لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة . قالوا:اليهود والنصارى ؟ قال:فمن ؟ . وفي رواية:فارس والروم ؟ قال:ومن الناس إلا هؤلاء ؟ .
والحاصل:التحذير من التشبه بهم في أحوالهم وأقوالهم ؛ ولهذا قال تعالى:( ليأكلون أموال الناس بالباطل ) وذلك أنهم يأكلون الدنيا بالدين ومناصبهم ورياستهم في الناس ، يأكلون أموالهم بذلك ، كما كان لأحبار اليهود على أهل الجاهلية شرف ، ولهم عندهم خرج وهدايا وضرائب تجيء إليهم ، فلما بعث الله رسوله - صلوات الله وسلامه عليه - استمروا على ضلالهم وكفرهم وعنادهم ، طمعا منهم أن تبقى لهم تلك الرياسات ، فأطفأها الله بنور النبوة ، وسلبهم إياها ، وعوضهم بالذلة والمسكنة ، وباءوا بغضب من الله .
وقوله تعالى:( ويصدون عن سبيل الله ) أي:وهم مع أكلهم الحرام يصدون الناس عن اتباع الحق ، ويلبسون الحق بالباطل ، ويظهرون لمن اتبعهم من الجهلة أنهم يدعون إلى الخير ، وليسوا كما يزعمون ، بل هم دعاة إلى النار ، ويوم القيامة لا ينصرون .
وقوله:( والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم ) هؤلاء هم القسم الثالث من رءوس الناس ، فإن الناس عالة على العلماء وعلى العباد وعلى أرباب الأموال ، فإذا فسدت أحوال هؤلاء فسدت أحوال الناس ، كما قال بعضهم:
وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها ؟
وأما الكنز فقال مالك ، عن عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر أنه قال:هو المال الذي لا تؤدى منه الزكاة .
وروى الثوري وغيره عن عبيد الله عن نافع ، عن ابن عمر قال:ما أدي زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين ، وما كان ظاهرا لا تؤدى زكاته فهو كنز وقد روي هذا عن ابن عباس ، وجابر ، وأبي هريرة موقوفا ومرفوعا وعمر بن الخطاب ، نحوه - رضي الله عنهم -:أيما مال أديت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونا في الأرض ، وأيما مال لم تؤد زكاته فهو كنز يكوى به صاحبه وإن كان على وجه الأرض .
وروى البخاري من حديث الزهري ، عن خالد بن أسلم قال:خرجنا مع عبد الله بن عمر ، فقال:هذا قبل أن تنزل الزكاة ، فلما نزلت جعلها الله طهرا للأموال .
وكذا قال عمر بن عبد العزيز ، وعراك بن مالك:نسخها قوله تعالى:( خذ من أموالهم ) [ التوبة:103] .
وقال سعيد بن محمد بن زياد ، عن أبي أمامة أنه قال:حلية السيوف من الكنز ، ما أحدثكم إلا ما سمعت .
وقال الثوري ، عن أبي حصين ، عن أبي الضحى ، عن جعدة بن هبيرة ، عن علي - رضي الله عنه - قال:أربعة آلاف فما دونها نفقة ، فما كان أكثر منه فهو كنز .
وهذا غريب . وقد جاء في مدح التقلل من الذهب والفضة وذم التكثر منهما أحاديث كثيرة ؛ ولنورد منها هنا طرفا يدل على الباقي ، فقال عبد الرزاق:أخبرنا الثوري ، أخبرني أبو حصين ، عن أبي الضحى ، عن جعدة بن هبيرة ، عن علي - رضي الله عنه - في قوله:( والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله ) قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:تبا للذهب ، تبا للفضة يقولها ثلاثا ، قال:فشق ذلك على أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالوا:فأي مال نتخذ ؟ فقال:عمر - رضي الله عنه - أنا أعلم لكم ذلك فقال:يا رسول الله ، إن أصحابك قد شق عليهم [ و] قالوا:فأي مال نتخذ ؟ قال:لسانا ذاكرا ، وقلبا شاكرا وزوجة تعين أحدكم على دينه .
حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا محمد بن جعفر ، حدثنا شعبة ، حدثني سالم ، حدثني عبد الله بن أبي الهذيل ، حدثني صاحب لي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:تبا للذهب والفضة . قال:فحدثني صاحبي أنه انطلق مع عمر بن الخطاب فقال:يا رسول الله ، قولك:تبا للذهب والفضة ، ماذا ندخر ؟ . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:لسانا ذاكرا ، وقلبا شاكرا ، وزوجة تعين على الآخرة .
حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا وكيع ، حدثنا عبد الله بن عمرو بن مرة ، عن أبيه ، عن سالم بن أبي الجعد ، عن ثوبان قال:لما نزل في الفضة والذهب ما نزل قالوا:فأي المال نتخذ ؟ قال [ عمر:أنا أعلم ذلك لكم فأوضع على بعير فأدركه ، وأنا في أثره ، فقال:يا رسول الله ، أي المال نتخذ ؟ قال] ليتخذ أحدكم قلبا شاكرا ولسانا ذاكرا وزوجة تعين أحدكم في أمر الآخرة .
ورواه الترمذي ، وابن ماجه ، من غير وجه ، عن سالم بن أبي الجعد وقال الترمذي:حسن ، وحكي عن البخاري أن سالما لم يسمعه من ثوبان .
قلت:ولهذا رواه بعضهم عنه مرسلا والله أعلم .
حديث آخر:قال ابن أبي حاتم:حدثنا أبي ، حدثنا حميد بن مالك ، حدثنا يحيى بن يعلى المحاربي ، حدثنا أبي ، حدثنا غيلان بن جامع المحاربي ، عن عثمان أبي اليقظان ، عن جعفر بن إياس ، عن مجاهد ، عن ابن عباس قال:لما نزلت هذه الآية:( والذين يكنزون الذهب والفضة ) الآية ، كبر ذلك على المسلمين ، وقالوا:ما يستطيع أحد منا أن يترك لولده ما لا يبقى بعده . فقال عمر:أنا أفرج عنكم . فانطلق عمر واتبعه ثوبان ، فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال:يا نبي الله ، إنه قد كبر على أصحابك هذه الآية . فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم -:إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم ، وإنما فرض المواريث من أموال تبقى بعدكم . قال:فكبر عمر ، ثم قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -:ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء ؟ المرأة الصالحة التي إذا نظر إليها سرته ، وإذا أمرها أطاعته ، وإذا غاب عنها حفظته .
ورواه أبو داود ، والحاكم في مستدركه ، وابن مردويه من حديث يحيى بن يعلى ، به ، وقال الحاكم:صحيح على شرطهما ، ولم يخرجاه .
حديث آخر:قال الإمام أحمد:حدثنا روح ، حدثنا الأوزاعي ، عن حسان بن عطية قال:كان شداد بن أوس - رضي الله عنه - في سفر ، فنزل منزلا ، فقال لغلامه:ائتنا بالشفرة نعبث بها . فأنكرت عليه ، فقال:ما تكلمت بكلمة منذ أسلمت إلا وأنا أخطمها وأزمها غير كلمتي هذه ، فلا تحفظونها علي ، واحفظوا ما أقول لكم:سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول:إذا كنز الناس الذهب والفضة فاكنزوا هؤلاء الكلمات:اللهم ، إني أسألك الثبات في الأمر ، والعزيمة على الرشد ، وأسألك شكر نعمتك ، وأسألك حسن عبادتك ، وأسألك قلبا سليما ، وأسألك لسانا صادقا ، وأسألك من خير ما تعلم ، وأعوذ بك من شر ما تعلم ، وأستغفرك لما تعلم ، إنك أنت علام الغيوب .