القتال في غير الأشهر الحرم:
قال تعالى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ ( 38 ) إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( 39 ) إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( 40 ) انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( 41 ) .
بعد أن بين الله تعالى الأشهر الحرم وعبث المشركين ، بين الجهاد سيرا على نسق الأشهر الحرم ، في قوله تعالى:{ فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم . . . . . . . . . . . . . . . ( 5 )} .
والقتال هنا قد تجاوز الجزيرة العربية إلى ما حولها من الشام ، وتجاوز الوثنية إلى أهل الكتاب الذين يعبدون غير الله تعالى وذلك في غزوة تبوك ، فقد كانت في شدة القيظ ، وكانت بعد أن ملأت الغنائم الجيوب ، وبعد أن أخذ الترفه يغزو النفس المؤمنة ، وهو آفة القوة .
أخذ يدعوهم صلى الله عليه وآله وسلم إلى الجهاد ، فكان منهم من أقعدته الدعة ، والاستنامة إلى الراحة ، فلم يكونوا كما كانوا من قبل إذا دعوا إلى الجهاد سارعوا إليه ، ولذا عاتبهم الله تعالى فقال:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ} ، صدر النداء بقوله تعالى:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} للإشارة إلى أن موجب الإيمان كان يدعو إلى المبادرة ، لا إلى التثاقل ، وقوله{ مَا لَكُمْ} استفهام إنكاري بمعنى التوبيخ ، معناه أي شيء ثبت لكم فمنعكم من المبادرة إذا دعيتم ، ثم صرح سبحانه بما تضمنه الاستفهام ، وهو{ اثَّاقَلْتُمْ} ، أصلها تثاقلتم ، وفي قراءة الأعمش ( تثاقلتم ) على أصل الاشتقاق ( 1 ){[1235]} ، وموضع الاستنكار هو التثاقل عندما{ قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ} ، و{ إذا} متعلقة في الفعل المقدر في قوله تعالى:{ مَا لَكُمْ} والمعنى أي شيء أثبت لكم حال ما قيل انفروا اثاقلتم و{ انفروا} معناه انتقلوا إلى الحرب ، والجهاد في سبيل الله ، فالنفير معناه الخروج إلى القتال .
وقوله تعالى:{ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} معناه تثاقلتم ، وثقلت عليكم المبادرة إلى القتال مخلدين بأنفسكم إلى الأرض حيث الدعة والراحة ، والاستظلال بظلها ، والسكون ، ويتضمن هذا المعنى أنهم رضوا بالتقاعد في الأرض وترك الرفعة والمقام المحمود في الجهاد ، كقوله تعالى:{ ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ( 176 )} ( الأعراف ) .
والمعنى أنهم إذ تثاقلوا عن الجهاد رضوا البقاء في الأرض ، فحقت عليهم الذلة .
وقال تعالى في ما يترتب على تثاقلهم ، وهو أن يكونوا قد تركوا الجهاد ورضوا بالمتاع القليل ، وتركوا متاع الآخرة الكثير ، فقال تعالى:{ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ} ، استفهام للاستنكار التوبيخي ، ومعناه أنكم إذا أثقلتم عندما دعيتم إلى النفور في سبيل الله فقد رضيتم بأن تكون لكم الحياة الدنيا التي هي الدنية{ مِنَ الآخِرَةِ} ، من هنا بمعنى بدل ، أي رضيتم بالدنيا ونعيمها الزائل بدل الآخرة ، ونعيمها المقيم الدائم .
ولذا قال مقررا الفرق بين متاع الدنيا ومتاع الآخرة ، فقال تعالت كلماته:{ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} .
( الفاء ) هنا للإفصاح ؛ لأنها تفصح عن شرط مقدر تقديره ، إذا كنتم رضيتم ذلك فما متاع الدنيا في الآخرة إلا قدر قليل ضئيل ، وهنا إشارات بيانية نذكرها .
أولها – في التعبير ب{ أثقلتم} فإن الصيغة بحالها من الإبدال في لفظها دالة على استثقال النفور في سبيل الله ، وما ذلك شأن المؤمنين المجاهدين الذي سبق لهم البلاء في الإسلام ، ولهم في الجهاد سابقات كرام .
الثانية – في النفي والإثبات في قوله تعالى:{ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ} فإنه يفيد قصر متاع الدنيا ، مهما يكن من إحساس وراحة بالنسبة للآخرة ما هو إلا قليل .
ولم يذكر متاع الآخرة لكثرته ، لأن الإيمان بها في ذاته سعادة غير محصورة ، فهي علو في أدراك النعيم المقيم الثابت الدائم .