وقد أتم الله تعالى ما ذكره في تحريم القتال في الأشهر الحرم ، وتلاعب المشركين به فقال:
{ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ ( 37 )} .
ختم الله تعالى الآية السابقة بقوله تعالى:{ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} لإشعار المؤمنين بأنه من التقوى إطاعة الله في تحريم القتال في الأشهر الحرم حقنا للدماء ، وأن الله تعالى لا يصاحب ولا ينصر إلا المتقين ، وأكد ذلك بالأمر بالعلم ، كما أكده بالصحبة السامية لله تعالى ، وبالجملة الاسمية .
ولذلك ذكر من بعد ذلك الاعتداء على الأشهر الحرم بالنسيء ، والنسيء معناه التأخير والتأجيل ، يقال:( نسأ ) بمعنى أخر وأجل ، ومنه قوله صلى الله تعالى عليه وسلم ( من أراد منكم أن يبارك له في رزقه ، وينسأ له في أجله فليصل رحمه ) ( 1 ){[1234]} .
وكانت طريقة النسيء أن يجيء إلى المحرم وهو من الشهر الحرام فيستبيح القتال فيه ، ويؤجل التحريم إلى صفر ، فيستبدل بالشهر الحرام شهرا حلالا ، ولأنه يريد الغارة ، وقالوا:إنما كانوا يفعلون ذلك رغبة في الغارات ، وطمعا في الأموال من النعم ، ويذكر ابن إسحاق في سيرته أن أول من فعل ذلك رجل من كنانة اسمه ( القلمس ) .
ولقد ذم الله النسيء أشد الذم فقال تعالى:{ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} أي ليس النسيء إلا زيادة في الكفر ، ف ( إنما ) أداة قصر ، فهو ليس إلا زيادة فيه ؛ كفروا بملة إبراهيم عليه السلام فعبدوا الأوثان وطافوا بالبيت عراة ، وكان شرع إبراهيم تحريم القتال في أربعة أشهر معينة بالتعيين ، فغيروا فيها بالنسيء ، فزادوا بذلك كفرا إلى كفرهم .
وقال تعالى:{ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ} أي أن شهواتهم في الغارات والقتل والقتال وتحكم الشيطان في نفوسهم يضلهم ، ويلاحظ أنه بني للمجهول للدلالة على أن عوامل الضلال كثيرة رأسها شهواتهم في الحرب ، وسيطرة الشيطان على نفوسهم ، والعداوة والبغضاء بينهم ، وكان هذا لأنهم أصحاب غارات وحروب مستمرة ، فإذا جاء الشهر الحرام ، لم يحرموا ما هم عليه من قتال ، بل يستمرون سادرين في غيهم ، ويؤخرون التحريم إلى الشهر الذي يليه ، ثم يسيرون في غيهم ، ويقول الزمخشري:ربما جعلوا السنة ثلاثة عشر شهرا أو أربعة عشر .
ويقول سبحانه وتعالى:{ يُحِلِّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} يحلون النسيء عاما ، ويمنعونه عاما حسب سيطرة هوى الحرب على أنفسهم ، وتحكم شهواتها في نفوسهم ، وقد يقصرون السنة عن اثني عشر شهرا ، ليعوضوا الزيادة التي زادوها ، وذلك ليوطئوا عدة ما حرم الله ، ( العدد الذي حرمه الله تعالى وهو أربعة أشهر ) .
وإنهم بذلك يخالفون ما شرعه الله تعالى ، وهو أنه حرم أشهرا معدودة بأربعة ، ومعينة بالتعيين ، حسب ميقات كل شهر وموضعه من السنة ، وبالنسبة لما قبله ، وما بعده ، فبالنسيء خالفوا التعيين ، ووضعوا شهرا في موضع شهر من عند أنفسهم من غير علم أوتوه ، ولا حجة اعتمدوا عليها ، بل هو الهوى ، فهم نظروا إلى العدد ، ولذلك قال تعالى:{ لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ} ، أي ليوافقوا العدد ، لا الأوقات ذاتها ، وبذلك أحلوا ما حرم الله ، فكان المحرم هو شهر المحرم ، فأحلوه ، وكان الحلال صفر فحرموه ، ولما اضطربت الأشهر وتغيرت مواضعها ، أحلوا ما حرم الله وحرموا ما أحل الله ، ولذلك عندما أعلن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تحريم الأشهر الحرم قال:( إن الزمان قد استدار كهيئة يوم خلق الله السماوات والأرض ) أي صار كل شهر في موضعه لا يبتعد عنه ، فرمضان هو رمضان كيوم خلق الله السماوات والأرض ، وذو القعدة كذلك ، وذو الحجة المحرم ، وبذلك يكون الحلال من الأشهر حلالا والحرام حراما .
ثم يقول سبحانه:{ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ} أي زين لهم الشيطان والهوى سوء عملهم القبيح ، وبني للمجهول للإشارة إلى أن عوامل كثيرة سولها لهم كفرهم ، جعلتهم يغيرون خلق الله في الأشهر ، ثم قال تعالى:{ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} ؛ لأنهم سلكوا سبيل الغواية ، واختاروا الضلال ، فساروا فيه ، فكان في ذلك ضلالهم ، والله سبحانه مع من سلك طريق الحق مختارا هداه إلى نهايته ، ومن سلك طريق الباطل مختارا أنهاه تعالى إليه .