/م36
{ إنما النسيء زيادة في الكفر يُضل به الذين كفروا يحلونه عاما ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله} النسيء وصف أو مصدر من نسأ الشيء ينسؤه نسأ ومنسأة إذا أخره ، ويقال أنسأه بمعنى نسأه أيضا .ففعيل بمعنى مفعول كقتيل ومقتول ، أي الشهر الذي أنسئ تحريمه ، والمصدر كالحريق والسعير بمعنى النسئ والإنساء نفسه ، وكانت العرب ورثت من ملة إبراهيم وإسماعيل تحريم القتال في الأشهر الحرم لتأمين الحج وطرقه كما تقدم ، كما ورثوا مناسك الحج ، ولما طال عليهم الأمد غيروا وبدلوا في المناسك وفي تحريم الأشهر الحرم ، ولا سيما شهر المحرم منها ، فإنه كان يشق عليهم ترك القتال وشن الغارات ثلاثة أشهر متوالية ، فأول ما بدلوا في ذلك إحلال الشهر المحرم بالتأويل وهو أن ينسؤوا تحريمه إلى صفر لتبقى الأشهر الحرم أربعة كما كانت ، وفي ذلك مخالفة للنص ولحكمة التحريم معا .وكان لهم في ذلك نظام متبع بأن يقوم رجل من كنانة يسمى القلمس في أيام منى حيث يجتمع الحجيج العام فيقول:أنا الذي لا أحاب ، ولا أعاب ، ولا يرد قولي .وفي رواية أنه يقول:أنا الذي لا يرد لي قضاء .فيقولون:صدقت ، فأخر عنا حرمة المحرم ، واجعلها في صفر ، فيحل لهم المحرم ، وبذلك يجعل الشهر الحرام حلالا ، ثم صاروا ينسئون غير المحرم ، ويسمون النسيء باسم الأصل فتتغير أسماء الشهور كلها .وأما قتالهم نفسه فقد كان كله حراما وبغيا وعدوانا أو ثأرا .
وفي كتاب الأنساب للبلاذري أن ممن كان ينسأ الشهور لهم أبو ثمامة القلمس بن أمية بن عوف الخ نسأ الشهور أربعين سنة ، وهو الذي أدرك الإسلام ، وذكر من نسأ قبله من قومه ، ثم قال:وكانت خثعم وطيئ لا يحرمون الأشهر الحرم ، فيغيرون فيها ويقاتلون ، فكان من نسأ الشهور من الناسئين يقوم فيقول:إني لا أحاب ولا أعاب ولا يرد ما قضيت به ، وإني قد أحللت دماء المحللين من طيئ وخثعم ، فاقتلوهم حيث وجدتموهم إذا عرضوا لكم .قال:وأنشدني عبد الله بن صالح لبعض القلامس:
لقد علمت عليا كنانة أننا إذا الغصن أمسى مورق العود أخضرا{[1567]}
أعزهم سربا وأمنعهم حمى وأكرمهم في أول الدهر عنصرا
وأنا أريناهم مناسك دينهم وحزنا لهم حظا من الخير أوفرا
وإن بنا يستقبل الأمر مقبلا وإن نحن أدبرنا عن الأمر أدبرا
وقال عمير بن قيس بن جندل الطعان:
لقد علمت معد أن قوميكرام الناس أن لهم كراما{[1568]}
ألسنا الناسئين على معدشهور الحل نجعلها حراما
فأي الناس لم ندرك بوتر ؟ وأي الناس لم نعلك لجاما ؟
فعلم من هذا أن النسيء تشريع ديني ملتزم غيروا به ملة إبراهيم بسوء التأويل واتباع الهوى ، فلهذا سماه الله زيادة في الكفر ، أي أنه كفر بشرع دين لم يأذن به الله زائد على أصل كفرهم بالشرك بالله تعالى ، فإن شرع الحلال والحرام والعبادة حق له وحده ، فمنازعته فيه شرك في ربوبيته كما تقدم في مواضع أقربها تفسير قوله:{ اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا} [ التوبة:31] ، وأنهم يضلون به سائر الكفار الذين يتبعونهم فيه فيتوهمون أنهم لم يخرجوا به عن ملة إبراهيم ؛ إذ واطئوا فيه عدة ما حرمه الله من الشهور في ملته ، وإن أحلوا ما حرمه الله ، وهو المقصود بالذات من شرعه في هذه المسألة لا مجرد العدد ، فهل يعتبر بهذا من يتجرؤون على التحليل والتحريم بآرائهم وتقاليدهم من غير نص قطعي عن الله ورسوله ؟
{ زين لهم سوء أعمالهم} قال ابن عباس:يريد زين لهم الشيطان سوء أعمالهم بهذه الشبهة الباطلة ، وهي أنهم يحرمون العدد الذي حرمه الله تعالى لم ينقصوا منه شيئا .وقد أسند التزيين في بعض الآيات إلى الله تعالى لظهور خيريته وحكمته ، وفي بعضها إلى الشيطان لوضوح مفسدته ، وفي بعضها إلى المفعول لإبهامه ، وبينا مناسبة كل منها للموضوع الذي ورد فيه .
{ والله لا يهدي القوم الكافرين} إلى حكمه في أحكام شرعه ، وبنائها على مصالح الناس ، وإصلاح أفرادهم ومجتمعهم في أمور دينهم ودنياهم ، فإن هذه الهداية الموصلة إلى سعادة الدنيا والآخرة من توابع الإيمان وآثاره ، كما قال:{ إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم} [ يونس:9] ، وأما الكافرون فيتبعون فيها أهواءهم وشهواتهم وما يزينه لهم الشيطان ، وهي سبب الشقاء ودخول النار .
/خ37