/م38
قال عزَّ وجلَّ:{ ياأيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض} الاستفهام في الآية للإنكار والتوبيخ .والخطاب للمؤمنين في جملتهم ، تربية لهم بما لعله وقع من مجموعهم لا من جميعهم ، ومنهم الضعفاء والمنافقون .والنفر والنفور عبارة عن فرار من الشيء أو إقدام عليه بخفة ونشاط وانزعاج ، فهو كما قال الراغب:بمعنى الفزع إليه أو منه ، يقال:نفرت الدابة والغزال نفورا ، ونفر الحجيج من عرفات نفرا ، واستنفر الإمام العسكر إلى القتال أو أعلن النفير العام فنفروا خفافاً وثقالاً ، والتثاقل التباطؤ ، فهو ضد النفر ؛ لأنه من الثقل المقتضي للبطء ، وهو يصدق على من لم يستجب لدعوة النفير ، وعلى من حاول أو استجاب متباطئا .وأصل اثقالتم تثقالتم أدغمت المثناة في المثلثة فجيء بهمزة الوصل لأجل النطق بالساكن ، والعرب لا تبدأ بالساكن ولا تقف على المتحرك .وقد عدي بإلى لتضمنه معنى التسفل والإخلاد إلى الأرض والميل إلى راحتها ونعيمها .
ولما دعا المؤمنين لغزوة تبوك كان الزمن زمن الحر ، وكانوا قريبي عهد بالرجوع من غزوتي الطائف وحنين ، وكانت العسرة شديدة ، وكان موسم الرطب في المدينة قد تم صلاحه ، وآن وقت تلطف الحر والراحة ، لأن شهر رجب وافق في تلك السنة برج الميزان ، وإن عبر عنه بعضهم بالصيف .
روى ابن جرير عن مجاهد في تفسير الآية قال:هذا حين أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح وحنين وبعد الطائف بأمرهم النفير في الصيف حين اخترقت النخل{[1569]} ، وطابت الثمار ، واشتهوا الظلال ، وشق عليهم المخرج ، قال:فقالوا:منا الثقيل وذو الحاجة والضيعة والشغل والمنتشر به أمره في ذلك كله .
وكان من عادة النبي صلى الله عليه وسلم إذا خرج إلى غزوة أن يوري بغيرها لما تقتضيه مصلحة الحرب من الكتمان ، إلا أنه في هذه الغزوة قد صرح بها ليكون الناس على بصيرة لبعد الشقة وقلة الزاد والظهر .فلهذه الأسباب كلها شق على المسلمين الخروج في ذلك الوقت إلى بلاد الشام ، وكانت حكمة الله تعالى في إخراجهموهو يعلم أنهم لا يلقون فيها قتالاًما سنبينه في تفسير آياتها من تمحيص المؤمنين وخزي المنافقين ، وفضيحتهم فيما كانوا يسرون من كفرهم وتربصهم الدوائر بالمؤمنين .
والمعنى:يا أيها الذين دخلوا في الإيمان ماذا عرض لكم مما ينافي صحة الإيمان أو كماله المقتضي للإذعان والطاعة حين قال لكم الرسول:انفروا في سبيل الله لقتال الروم الذين تجهزوا لقتالكم والقضاء على دينكم الحق الذي هو السبيل الموصل إلى معرفة الله وعبادته ، وإقامة شرعه وسننه ، فتثاقلتم عن النهوض بالنشاط وعلو الهمة ، مخلدين إلى أرض الراحة واللذة ؟ وآية الإيمان الجهاد بالمال والنفس في سبيل الله:{ إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون} .
{ أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة} أي أرضيتم براحة الحياة الدنيا ولذتها الناقصة الفانية ، بدلا من سعادة الآخرة الكاملة الباقية ؟ إن كان الأمر كذلك فقد استبدلتم الذي هو أدنأ وأدنى بالذي هو خير وأبقى .
{ فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل} أي فما هذا الذي يتمتع به في الحياة الدنيا منغصا بالشوائب والمتاعب في جنب ما في الآخرة من النعيم المقيم ، والرضوان الإلهي العظيم ، إلا شيء قليل لا يرضاه عاقل بدلاً منه ؟ وإنما يؤثره عليه من لا يؤمن به ، وقد شبه النبي صلى الله عليه وسلم نعيم الدنيا بالإضافة إلى نعيم الآخرة في قلته في نفسه وزمنه بمن وضع أصبعه في اليم ثم أخرجها منه قال:«فانظر بم ترجع »{[1570]} ؟ رواه أحمد ومسلم والترمذي والنسائي ، والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة .
/خ40