/م36
قال تعالى:{ إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض} المراد الشهور التي تتألف منها السنة القمرية ، وواحدها شهر ، وهو اسم للهلال أو القمر من مادة الشهرة ، ثم سميت به الأيام من أول ظهور الهلال إلى سراره ، ومبلغ عدتها اثنا عشر شهرا فيما كتبه الله ، وأثبته من نظام سير القمر وتقدير منازل خلق السموات والأرض على هذا الوضع المعروف لنا من ليل ونهار إلى الآن ، والمراد بيوم خلق السموات والأرض الوقت الذي خلقهما فيه باعتبار تمامه ونهايته في جملته ، وهو ستة أيام من أيام التكوين باعتبار تفصيله وخلق كل منهما وما فيهما .
فالكتاب يطلق على نظام الخلق والتقدير والسنن الإلهية فيه ؛ لأنه ثابت كالشيء المكتوب المحفوظ الذي لا ينسى ، أو لأنه تعالى كتب كل نظام في خلقه في كتاب عنده في عالم الغيب يسمى اللوح المحفوظ ، وقد فسر به الكتاب هنا .قال تعالى حكاية عن موسى في جوابه لفرعون على سؤاله عن القرون الخالية:{ قال علمها عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى} [ طه:52] ، وقال:{ لكل أجل كتاب} [ الرعد:38] ، وقال:{ كتب في قلوبهم الإيمان} [ المجادلة:22] ، وقال:{ ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء} ، وهذا كله بمعنى النظام الإلهي القدري ، وتقدم بحث كتابة المقادير في تفسير سورة الأنعام ، وقيل:إن المراد بكتاب الله هنا حكمه التشريعي ، لا نظامه التقديري ، ومنه حرمة الأشهر الحرم ، وكون الحج أشهرا معلومات .
ومن أحكام كتاب الله التشريعية أن كل ما يتعلق بحساب الشهور والسنين كالصيام والحج وعدة المطلقات والرضاع فالمعتبر فيه الأشهر القمرية .وحكمته العامة أنها يمكن العلم بها بالرؤية البصرية للأميين والمتعلمين في البدو والحضر على سواء ، فلا تتوقف على وجود الرياسات الدينية ولا الدنيوية ولا تحكم الرؤساء .ومن حكمة شهر الصيام وأشهر الحج أنها تدور في جميع الفصول فتؤدى العبادة بهذا الدوران في كل أجزاء السنة ، فمن صام رمضان في ثلاثين سنة يكون قد صام لله في كل أجزاء السنة ، ومنها ما يشق الصيام فيه وما يسهل .وكذلك تكرار الحج ، وفيه حكمة أخرى في شأن الذين يسافرون له في جميع أقطار الأرض التي تختلف فصولها وأيام الحر والبرد فيها .وإطلاق «الكتاب » بهذا المعنى معروف ، ومنه قوله تعالى بعد سرد محرمات النكاح{ كتاب الله عليكم} [ النساء:24] ، ولكن ذكر خلق السموات والأرض أشد مناسبة للأول ، ويناسب الثاني قوله:
{ منها أربعة حرم} واحدها حرام «كسحب جمع سحاب » ، وهو من الحرمة ، فإن الله تعالى كتب وفرض احترام هذه الأشهر وتعظيمها ، وحرم القتال فيها على لسان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، ونقلت العرب ذلك عنهما بالتواتر القولي والعملي ، ولكنها أخلت بالعمل اتباعاً لأهوائها كما يأتي بيانه في الكلام على النسيء في الآية التالية وهو الغاية لما في هذه الآية .وهذه الأشهر ثلاثة منها سرد وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، وواحد فرد وهو رجب .وحكمة تحريم القتال فيها وتعظيمها ستأتي .
{ ذلك الدين القيم} الإشارة في قوله:{ ذلك} لعدة الشهور وتقسيمها إلى حرم وغيرها وعدد الحرم منها ، وقيل لما تضمنه من تحريمها .والدين القيم هو الصحيح المستقيم الذي لا عوج فيه .والمعنى أن ذلك هو الحق الذي يدان الله تعالى به دون النسيء ، وفسر البغوي الدين القيم هنا بالحساب المستقيم .وقال الجمهور:معناه ذلك الشرع الصحيح المستقيم الذي كان عليه إبراهيم وإسماعيل في الحج وغيره مما يتعلق بالأشهر من الأحكام .
{ فلا تظلموا فيهن أنفسكم} الضمير في «فيهن » للأربعة الحرم عند الجمهور ، وقيل لجميع الشهور ، وظلم النفس يشمل كل محظور ، ويدخل فيه هتك حرمة الشهر الحرام دخولاً أولياً ، فإن الله تعالى اختص بعض الأزمنة وبعض الأمكنة بأحكام من العبادات تستلزم ترك المحرمات فيها والمكروهات بالأولى ، لأجل تنشيط الأنفس على زيادة العناية بما يزكيها ويرفع شأنها ، فإن من طبع البشر الملل والسآمة من الاستمرار على حالة واحدة تشق عليها ، فجعل الله العبادات الدائمة خفيفة لا مشقة في أدائها كالصلوات الخمس ، فإن أدنى ما تصح به صلاة الفريضة لا يتجاوز خمس دقائق للرباعية منها وهي أطولها وما زاد فهو كمال ، وخص يوم الجمعة في الأسبوع بوجوب الاجتماع العام لصلاة ركعتين وسماع خطبتين في التذكير ، والموعظة الحسنة التي تقوي في المؤمنين حب الحق والخير ، وكره الباطل والشر ، والتعاون على البر والتقوى ، وإقامة مصالح الملة والدولة ، وخص شهر رمضان بوجوب صيامه في كل سنة ، وأياما معدودات من شهر ذي الحجة بأداء مناسك الحج ، وجعل ما قبلها من أول ذي العقدة وما بعدها إلى آخر المحرم من الأيام التي يحرم فيها القتال ؛ لأن السفر إلى مشاعر الحج في الحجاز والعودة منها تكون في هذه الأشهر الثلاثة ، كما حرم مكة وما حولها في جميع السنة لتأمين الحج والعمرة التي تؤدى في كل وقت ، واحترام البيت الذي أضافه إلى نفسه ، وشرع فيه من العبادة ما لا يصح في غيره .فكان الرجل يلقى قاتل أبيه في أرض الحرم وفي غيرها من الأشهر الحرم فلا يعرض له بسوء على شدتهم في الثأر ، وضراوتهم بسفك الدم ، وحرم شهر رجب في وسط السنة لتقليل شرور القتال وتخفيف أوزاره ، ولتسهيل السفر لأداء العمرة فيه .ولولا اختصاصه تعالى لما شاء من زمان ومكان بالعبادة فيه لما كان للأزمنة والأمكنة في نفسها مزية في ذلك ، وأهواء الناس لا تتفق على زمان ولا مكان فيوكل ذلك إليهم ، فلم يبق إلا أن يجعل الله الاختصاص أمرا تعبدياً خالصاً يفعل لمجرد الامتثال والقربة كما ورد في تقبيل الحجر الأسود من قول عمر رضي الله عنه:إني أعلم أنك حجر لا تنفع ولا تضر ، ولولا أنني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك لما قبلتك{[1565]} .
{ وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة} أي قاتلوهم جميعا كما يقاتلونكم جميعاً ، بأن تكونوا في قتالهم إلباَ واحداً لا يختلف فيه ولا يختلف عنه أحد ، كما هو شأنهم في قتالكم ، وذلك أنهم يقاتلونكم لدينكم لا انتقاما ولا عصبية ولا للكسب كدأبهم في قتال قويهم لضعيفهم ، فأنتم أولى بأن تقاتلوهم لشركهم{ وهم بدؤهم أول مرة} [ التوبة:13] وهذا لا يقتضي فرضية القتال على كل فرد من الأفراد إلا في حال إعلان الإمام للنفير العام وسيأتي في هذه السورة{ وما كان المؤمنون لينفروا كافة} [ التوبة:122] ، وتقدم الكلام في حكم القتال في الأشهر الحرم في تفسير سورة البقرة .
{ واعلموا أن الله مع المتقين} للظلم والعدوان والفساد في الأرض بالشرك والمعاصي ، ولأسباب الخذلان والفشل في القتال كالتنازع وتفرق الكلمة ومخالفة سنن الله تعالى في الاجتماع البشري ، وتقدم تفصيل القول في التقوى العامة والخاصة بالقتال في مواضعها من الآيات المناسبة لها ، والمعية هنا النصر والمعونة والتوفيق لما فيه المصلحة ، والتقوى من أسباب ذلك .
ومن مباحث اللفظ في الآية كلمة«كافة » ، لم ترد في التنزيل إلا منكرة منونة في أربعة مواضع:هذه الآية ، وقوله تعالى:{ ادخلوا في السلم كافة} [ البقرة:208] ، وفي أواخر هذه السورة{ وما كان المؤمنون لينفروا كافة} [ التوبة:122] ، وفي سورة سبأ{ وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا} [ سبأ:28] ، وقد ظن بعض العلماء أنها لا تستعمل في العربية إلا هكذا وحكم بخطأ من استعملها معرفة باللام أو الإضافة ، ورد عليهم آخرون بما نفصله في الحاشية ليقرأه وحده من أراده{[1566]} .
/خ37