/م34
{ يوم يحمى عليها في نار جهنم} الظرف هنا يتعلق بقوله تعالى قبله{ بعذاب أليم} ، وقد بينا من قبل أن الأصل في البشارة الخبر المؤثر يظهر تأثيره في بشرة الوجه بالسرور أو الكآبة ، ولكن غلب في الأول ، ولذلك يحمل في مثل هذا المقام على التهكم والمراد به الإنذار ، أي أخبرهم بعذاب أليم يصيبهم في ذلك اليوم الذي يحمى فيه على تلك الأموال المكنوزة في نار جهنم- أي دار العذاب- بأن توضع وتضرم عليها النار الحامية حتى تصير مثلها ، فهو كقوله تعالى:{ وما توقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع} [ الرعد:17] ، وهو أبلغ من"يوم تحمى "، فتكون من الإحماء عليها كالميسم .وظاهر العبارة أنه يحمى عليها بأعيانها والله قادر على إعادتها ، وإن كان المعنى المراد من الإنذار يحصل بالإحماء عليها وعلى مثلها ، وليس في أعيانها من المعنى ولا الحكمة ما في إعادة الأجساد ، وأمور الآخرة من عالم الغيب ، فلا ندرك كنهها وصفاتها من الألفاظ المعبرة عنها ، فمذهب السلف الحق الإيمان بالنصوص مع تفويض أمر الكنه والصفة إلى عالم الغيب سبحانه ، والواجب علينا مع الإيمان بالنص العبرة المرادة منه في إصلاح النفس .
ويرد عليه أن هذه الأموال تفنى بخراب الدنيا وصيرورة الأرض بقيام الساعة هباء منبثاً ، ويجاب عنه بما أجيب عن القول بإعادة الأجساد بأعيانها من قدرة الله تعالى على ذلك .وأهون منه إيراد كون الدرهم أو الدينار الواحد قد يكنزه كثير من الناس بالتداول ، وقد يقال:إنهم يكوون بها بالتناوب ، وفي معناه إيرادهم على إعادة الأعيان أن جسد الإنسان الواحد قد يكون جسداً لكثير من الناس والحيتان والوحوش والأنعام ، وتقدم تفصيل هذا في الكلام على بعث الأجساد من سورة الأعراف .
وفي بعض الآثار أن الدنانير والدراهم المكنوزة تحمى كلها وإن كثرت ، ويتسع جسده لها كلها ، حتى لا يوضع دينار مكان دينار ، ولم يصح هذا مرفوعاً ، وإنما صح عند مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعا:( ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل له يوم القيامة صفائح من نار فيكوى بها جنبه وجبهته وظهره ){[1562]} الحديث ، والصفائح غير الدراهم والدنانير ، وهي بالرفع نائب الفاعل لجعل ، فيجوز أن تكون مما يخلقه الله يوم القيامة ، ورواية الرفع هي المشهورة .قال الشراح:وفي رواية بالنصب .وفي البخاري والنسائي عنه مرفوعاً أيضا:( من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثل له شجاع أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ، فيأخذ بلهزمته يقول:أنا مالك ، أنا كنزك ){[1563]} ، ثم تلا صلى الله عليه وسلم آية{ سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة} [ آل عمران:180] ، وفي رواية للنسائي ( إن الذي لا يؤدي زكاة ماله يخيل إليه ماله يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان ، فليزمه أو يطوقه .يقول:أنا كنزك إنا كنزك ){[1564]} ، فهذا نص صحيح من النبي صلى الله عليه وسلم في أن ذلك التعذيب بجعل المال صفائح يكوى بها مانع الزكاة أو شجاعا ( وهو ذكر الحيات ) يطوقه ، إنما هو ضرب من التمثيل أو التخييل ، لا نفس ذلك المال الذي كان يكنزه في الدنيا ، وبه يبطل كل إيراد ويزول كل إشكال ، والتعذيب حقيقي على كل حال .
{ فتكوى بها جباههم} التي كانوا يستقبلون بها الناس منبسطة أساريرها من الاغتباط بعظمة الثروة ، ويستقبلون بها الفقراء منقبضة متغضنة من العبوس والتقطيب في وجوههم لينفروا ويحجموا عن السؤال .
{ وجنوبهم وظهورهم} التي كانوا يتقلبون بها على النعمة اضطجاعا واستلقاء ، ويعرضون بها عن لقاء المساكين وطلاب الحاجات ازوراراً وإدباراً ، فلا يكون لهم في جهنم ارتفاق ولا استراحة فيما سوى الوقوف إلا بالانكباب على وجوههم ، كما قال:{ يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر} [ القمر:48] وكذلك قال هنا .
{ هذا ما كنزتم لأنفسكم} أي تقول لهم ملائكة العذاب الذين يتولون كيهم:هذا العذاب الأليم الواقع بكم هو جزاء ما كنتم تكنزون في الدنيا ، أو هذا الميسم الذي تكوون به هو المال الذي كنزتموه لأنفسكم لتنفرد بالتمتع به .
{ فذوقوا ما كنتم تكنزون} أي ذوقوا وباله ونكاله ، أو وبال كنزكم له ، وإمساككم إياه عن النفقة في سبيل الله .وحاصل المعنى أن ما كنتم تظنون من منفعة كنزه لأنفسكم خاصة بها ، لا يشارككم فيها أحد ، قد كان لكم خُلفاً ، وعليكم ضدا ، فإنه صار في الدنيا لغيركم ، وكان عذابه في الآخرة هو الخاص بكم ، كدأب جميع أهل الباطل ، فيما زين لهم من الرذائل ، يرى البخلاء أن البخل حزم ، كما يرى الجبناء أن الجبن حزم ، وتلك خديعة الطبع اللئيم ، واجتهاد الرأي الأفين ، فالأولون من خوف الفقر في فقر ، والآخرون يعرضون أنفسهم للأذى أو الموت بهربهم من الموت ، فإن جبنهم هو الذي يغري المعتدين بإيذائهم ، ويمكن المقاتلين من الفتك بهم .
وإن أكبر أسباب ضعف المسلمين في هذا العصر وتمكين أعدائهم من سلب ملكهم ، ومحاولة تحويلهم عن دينهم هو بخل أغنيائهم ، وجبن ملوكهم وأمرائهم ، وقوادهم وزعمائهم ، الذي جعلهم أعوانا لسالبي ملكهم على أنفسهم .وقد تقدم بيان هذا المعنى في تفسير قوله تعالى:{ وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} [ البقرة:195] ، فلو أسس الأغنياء مدارس للجمع بين تعليم العلوم الدينية والدنيوية ، لاستغنوا بها عن مدارس دعاة النصرانية ، ولأمكن للمصلحين منهم إذا تولوا إدارتها أن يخرجوا لهم فيها رجالاً يحفظون للأمة دينها وملكها ، ويعيدون إليها مجدها ، ويجذبون أقوام أولئك المعتدين عليها إلى الإسلام فيدخلون فيه أفواجا ، ويعود الأمر كما بدأ .