{ لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ( 48 )} .
الضمير يعود إلى الذين استأذنوا من النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وثبطوا المؤمنين ، وهم المنافقون ، و{ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ} أي طلبوها بشدة راغبين فيها ، قاصدين الفتنة أي تضليل المؤمنين ، والإفساد من قبل ، أي من قبل ذلك التخذيل الذي بدا منهم الآن ، فذلك دينهم ، وما أرادوا بالإسلام إلا خبالا ، حتى لقد روى أنهم – والأوس والخزرج كانوا يبايعون النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالعقبة – كانوا يدبرون الأمور لاغتياله عند مقدمه المدينة كما روى ابن جريج ، ولقد قال في ذلك الحافظ ابن كثير:{ لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ} أي لقد أعملوا فكرهم وأجالوا آرائهم في كيدك وكيد أصحابك ، وخذلان دينك ، وإخماده مدة طويلة ، وذلك أوان مقدم النبي صلى الله عليه وآله وسلم المدينة ، ورمته العرب عن قوس واحدة ، وما رتبه يهود المدينة ومنافقوها ، فلما نصره الله يوم بدر ، وأعلى كلمته ، قال عبد الله بن أبي:هذا أمر قد توجه ، فدخلوا في الإسلام ظاهرا ، ثم كلما أعز الله الإسلام وأهله غاظهم ذلك وساءهم ) .
وقال سبحانه وتعالى:{ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ} أي صرفوها ، ودبروها ، وكانوا أحيانا يمالئون أعداء الدين من أهل الكتاب والمشركين ، ومرة يخذلون المؤمنين ، ومرة يدخلون في الغزوات مجاهدين ، ثم يعدلون ليلقوا التردد في نفوس المؤمنين كما فعلوا في غزوة أحد ، ومرة يحرضون من يوالونهم من بعض الأوس الخزرج لحوادث صغيرة يثيرونها . حتى كادت تكون فتنة بين الحيين من الأنصار ، فهم في فتنتهم الدائمة المستمرة ، يلبسون لكل حال لبوسها ، يحركهم الكفر ، ويدفعهم النفاق إلى أن يرتكبوا حماقات ، وإنهم ليعتدون حدودهم ، فيثيرون حديث الإفك حتى تململ منهم ذووهم ، وأصبح أهل كل بيت فيه منافق يحرضون النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه .
وهكذا مضى أمرهم ، والإسلام ماض في طريق الحق ، حتى وصل إلى غايته ، وهذا قوله تعالى:{ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ} أي ظهرت أحكام الإسلام ، وهي أمر الله ، وانتشر في الوجود أمره ، وهم كارهون ، أي ظهر مع تدبيرهم الفاسد ، وبغضهم الشديد له .
وكانوا يتدرعون الحيل ليأذن لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، والله تعالى في علمه المكنون أنهم لا يخرجون وكره انبعاثهم ، وما كره الله تعالى لا يمكن أن يتحقق ،