/م47
{ لقد ابتغوا الفتنة من قبل} أي تالله لقد ابتغى هؤلاء المنافقون إيقاع الفتنة في المسلمين من قبل هذا العهدعهد غزوة تبوكوأوله ما كان في غزوة أحد{ إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا} [ آل عمران:122] ، وذلك أنهم لما خرجوا إلى أحد اعتزلهم عبد الله بن أبيّ بن سلول زعيم المنافقين بنحو ثلث الجيش في موضع يسمى الشوط- بين المدينة وأحد- وطفق يقول لهم في النبي صلى الله عليه وسلم:أطاعهم وعصاني .وفي رواية:أطاع الولدان ومن لا رأي له ، فما ندري علام نقتل أنفسنا ههنا ؟ وكان رأي ابن أبي لعنه الله عدم الخروج إلى أحد ، ورأي الجمهورولا سيما الشبانالخروج ، فعمل صلى الله عليه وسلم برأي الأكثر على أنه كان خلاف رأيه أيضاً ، فرجع ابن أبي بمن اتبعه من المنافقين ، وكاد يفشل بنو سلمة من الأوس وبنو حارثة من الخزرج بقوله وفعله ، فعصمهما الله تعالى من الفتنة بفضله ، وذلك قوله تعالى:{ والله وليهما} وتقدم تفصيل ذلك في الكلام على غزوة أحد من تفسير الجزء الرابع .
{ وقلبوا لك الأمور} أي دبروا لك الحيل والمكايد ، ودوَّروا الآراء في كل وجه من وجوهها لإبطال دينك ، وفض قومهم من حولك ، فإن تقليب الشيء تصريفه في كل وجه من وجوهه ، والنظر في كل ناحية من أنحائه ، ليعلم أيها الأولى بالاختيار .وما زال لهؤلاء المنافقين ضلع مع اليهود وضلع مع المشركين ، في كل ما فعلا من عداوتك وقتال المؤمنين .
{ حتى جاء الحق} بالنصر الذي وعدك به ربك وكانوا به يمترون .
{ وظهر أمر الله وهم كارهون} أي ظهر دين الله على الدين كله بالتنكيل باليهود الغادرين ، والنصر على المشركين ، وإبطال الشرك بفتح مكة ودخول الناس في الإسلام أفواجا ، وهم كارهون لذلك ، حتى كانوا بعد الفتح يمنون أنفسهم بظهور المشركين على المؤمنين في حنين .
وقد روى ابن جرير الطبري في تفسير الآية من طريق ابن إسحاق عن الزهري ويزيد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم ، كل قد حدث في غزوة تبوك ما بلغه عنها وبعض القوم يحدث ما لم يحدث بعض ، وكل قد اجتمع حديثه في هذا الحديث:إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم ، وذلك في زمان عسرة من الناس ، وشدة من الحر ، وجدب من البلاد ، وحين طاب الثمار ، وأحبت الظلال ، والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم ، ويكرهون الشخوص عنها على الحال من الزمان الذي هم عليه ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يخرج في غزوة إلا كنى عنها وأخبر أنه يريد غير الذي يصمد له ، إلا ما كان من غزوة تبوك فإنه بينها للناس لبعد الشقة ، وشدة الزمان ، وكثرة العدو الذي صمد له ، ليتأهب الناس لذلك أهبته ، فأمر الناس بالجهاد ، وأخبرهم أنه يريد الروم ، فتجهز الناس على ما في أنفسهم من الكره لذلك الوجه ، لما فيه مع ما عظموا من ذكر الروم وغزوهم ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جد في سفره فأمر الناس بالجهاز والانكماش{[1579]} ، وحض أهل الغنى على النفقة والحملان في سبيل الله .
فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عسكره على ثنية الوداع ، وضرب عبد الله بن أبي بن سلول عسكره على ذي حدة أسفل منه نحو ذباب جبل بالجبانة أسفل من ثنية الوداع ، وكان فيما يزعمون ليس بأقل العسكرين ، فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلف عنه عبد الله بن أبي فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب ، وكان عبد الله بن أبي أخا بني عوف بن الخزرج ، وعبد الله بن نبتل أخا بني عمرو بن عوف ، ورفاعة بن يزيد بن التابوت أخا بني قينقاع ، وكانوا من عظماء المنافقين ، وكانوا ممن يكيد للإسلام وأهله ، قال وفيهمكما ثنا ابن حميد قال:ثنا سلمة عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن عبيد عن الحسن البصريأنزل الله:{ لقد ابتغوا الفتنة من قبل} اه .وأول هذا التلخيص موافق لما لخصناه من قبل ، وبقية ما ذكره عن ابن أبي وعسكره فيه مبالغة أشار الطبري إلى عدم ثقته بها بقوله[ فيما يزعمون] ، وتقدمت رواية من قال:إن المتخلفين 36 رجلاً .
وزعم بعض المفسرين أن المراد بالفتنة في هذه الآية محاولة المنافقين اغتيال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند خروجهم هذا .والصواب أن هذه الحادثة وقعت في أثناء العودة من تبوك ، وهي المشار إليها في آية{ وهموا بما لم ينالوا} [ التوبة:74] وسيأتي بيانها .