ولقد ذكر الله تعالى بعضا مما كانوا يعتذرون به فقال تعالت كلماته:
{ وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ( 49 )} .
كان المنافقون يتعللون بكل علة صادقة أو كاذبة ، بل إنهم لم يتعللوا بصادق ، بل كلها تعلات يقولونها بأفواههم وقلوبهم غير مطمئنة إلى الخروج ؛ لأنهم يريدون التعويق ، وهو القتال قد أفزعهم ، وبعد الشقة قد أقعدهم ، وكان من تعلتهم أن قالوا إننا نخشى فتنة النساء في الرومان لجمال نسائهم ، روى أن الجد ابن قيس أخا بني سلمة قال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:هل لك في جلاد بني الأصفر ، فقال:يا رسول الله أوتأذن لي ولا تفتني فوا لله لقد عرف قومي ما رجلا أشد عجبا بالنساء مني ، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر ألا أصبر عنهن . فأعرض عنه رسول الله وقال:( قد أذنت لك ) ( 1 ){[1238]} .
ومعنى هذا أن الآية جاءت تمثل ضروب معاذيرهم والواهية التي لا تقنع ، إنما هو عدم الإيمان ، وفزع النفاق ، والزمخشري يفسر الآية على العموم ، ويفسر ( لا تفتني ) أي لا تأذن لي في الخروج فأقع في الفتنة التي لا قبل لي بها وهي عصيانك ، فيبين الله تعالى أن هذا الاعتذار التافه الذي لا يدل على عجز حقيقي هو الفتنة في ذاته ، ولذا قال تعالى:{ أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ} ، أي في الفتنة الكبيرة سقطوا ، والفتنة أطلقت ، والمطلق ينصرف إلى الفرد الأعظم أي الفتنة الكبرى سقطوا فيها ، وقدم المفعول وهو الفتنة على الفعل للإشارة إلى أن عملهم مقصور على الفتنة . فهو الفتنة ، ولا يكون غيرها ؛ لأن عذرهم كاذب ساقط في ذات نفسه .
وعلى أن الآية نزلت فيمن اعتذروا بفتنة نساء بني الأصفر تكون فتنة التخلف مشاكلة لما ادعوه من فتنة النساء في اللفظ وإن كانت غيرها .
وإنهم بهذا الكذب والاعتذارات الواهية ، وعدم إيمانهم يعدون كافرين ، ولذا قال تعالى:{ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} أي أنهم مؤكدون داخلون فيها ، وستحيط بهم يوم القيامة ، وذكرت الآن لتأكد وقوعها ، كقوله تعالى:{ أتى أمر الله فلا تستعجلوه . . . . ( 1 )} ( النحل ) ، فهو تأكيد لما سيقع بتصويره كأنه واقع وقوعا مؤكدا .
وقد أكد سبحانه وتعالى الوقوع في جهنم يوم القيامة بعدة مؤكدات:
أولها:الجملة الاسمية ، ثانيها ( إن ) الدالة على توكيد الخبر ، وثالثها بيان أنها محيطة بهم إحاطة الدائرة بقطرها لا يخرجون عما تحيط به ، ورابعها باللام المؤكدة في قوله تعالى:{ لمحيطة} .
وأظهر سبحانه في موضع الإضمار فلم يقل:( المحيطة بهم ) بل قال:{ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} لبيان سبب هذا العذاب الأليم وهو الكفر ، وقانا الله تعالى شر النفاق وأهله .