ويقول تعالى في إثبات أنهم لا يصدقون في عهد ما داموا ينكثون:
{ كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ( 8 )} .
( كيف ) هنا للاستفهام الإنكاري مع التعجب ، وهي داخلة على ما دخلت عليه ( كيف ) السابقة . أي كيف يكون للمشركين عهد عند الله ورسوله والحال أنهم{ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} . . .
يقال ظهر عليه إذا غلبه وانتصر عليه ، وظهر الحائط أي علاه ، وكقوله تعالى في السد
في سورة الكهف:{ فما استطاعوا أن يظهروا وما استطاعوا له نقبا ( 97 )} .
و ( إلإل ) يطلق بمعنى الحلف والعهد ، ويطلق بمعنى الرحم والقرابة ، ومعنى قوله تعالى:{ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ} بأن ينتصروا عليكم لا يراعوا رحما ولا قرابة ، ولا جامعة بينكم وبينهم ،{ ولا ذمة} ، أي عقدا تربطون به دينكم ، فهم يرضونكم بأفواههم لا بقلوبهم .
والمعنى الجملي ، كيف يكون لهم عهد عند اله وعند رسوله وحالهم أن ذلك عهد لكم وأنتم أقوياء غالبون ظاهرون عليهم ، فإن يظهروا عليكم لا يقربوا فيكم رحما واصلة ، ولا عهدا عاهدوه ، فإن ذلك العهد كان لإرضائكم لا للوفاء ، وهم ينقضون ذلك العهد عند أول فرصة يفترضونها ، ويحسون فيها القوة ، ولا عهد لذليل ، وهذا عهد الأذلاء يعقدونه للإرضاء لا للوفاء ، ولذا ختم الله تعالى الآية بقوله تعالى ، وتعالت كلماته:{ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} فما أعدل الله تعالى في كلماته ، نسب الفسق وعدم انضباط النفس وانحلالها بحيث لا تصبر على العهد – إلى أكثرهم لا إلى كلهم ، ولكن هذا الأكثر هو الغالب فيهم الذي أفسدهم وجعل فيهم رأيا عاما فاسدا ، لا وفاء فيه ولا إيمان بحق ولا بعهد .
ولقد وصف الله تعالى عهدهم بوصف يدل على أنه عهد لا يبعث عليه إلا النفاق ، فيقول عز من قائل:{ يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ} وهذا معنى مصور لما انبعث به عهدهم ، فهو عهد للإرضاء بالقول الذي ينقصه القلب ولا يؤيده ، فهم يحاولون فيه الإرضاء بالأفواه فقط ، وتأبى قلوبهم أي تمتنع عن الموافقة على ما تنطق به ألسنتهم ، وكيف يكون هذا عهدا عند الله علام الغيوب ، وعند رسوله الذي يعرف قلوبهم من لحن القول ، ولقد وصفهم تميم بن مقبل في شعره ، فقال:
أفسد الناس خلوف خلفوا قطعوا الإل وأعراق الرحم
وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
وجدناهمو كاذبا إلهم وذو الإل والعهد لا يكذب