وإن المنافقين قد استمروا على فرارهم من الجهاد ، ولذا قال تعالى:{ وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين86} .
كان المنافقون كلما نزلت آية جهاد ، قبعوا قبوع القواقع في أصدافها ، ورضوا بأن يكونوا من المتخلفين لا يتقدمون إلى الجهاد ، وإن كانت فيه العزة ؛ لأن أسباب العزة من جهاد ومقاومة للباطل ثقل عليهم ، ولذا قال تعالى فيهم:{ وإذا أنزلت سورة} السورة في عرف القرآن الكريم هي الجزء من القرآن الكريم المسور المحدودة المبدوءة ب"بسم الله الرحمن الرحيم"إلا بسورة براءة ، فقد بينا أنها ليست مبدوءة بها ، ويصح أن يراد به هنا بعضها ، وهي آية من الآيات ، ويكون قد عبر عنها بسورة لبيان كمالها ، وأحكامها ، وأن غايتها ثابتة قائمة ، وهي الجهاد فالجهاد ماض إلى يوم القيامة{[1262]} .
وإن أريد بها سورة كاملة ، فأوضح سور الجهاد سورة براءة ؛ لأنها ابتدأت به ، وتنظيمه مع العهود والمواثيق ، وآياتها داعية إليه كاشفة تخاذل المنافقين عنه .
وقوله:{ أن آمنوا بالله} أن تفسيرية ، وهي تبين أن ما بعد هو السورة ، فتكون بمعنى جزء السورة ، ويصح أن تكون مصدرية ، والمصدر في مقام الجار والمجرور ، أي نزلت السورة ب{ أن آمنوا بالله} ، ولم يذكر الإيمان بالرسول لأن الإيمان به حق الإيمان إيمان برسله ؛ لأنهم جاءوا بمعجزات أيدهم الله بها ، ولأن الإيمان بالرسول مذكور مطلوب في قوله تعالى:{ وجاهدوا مع رسوله} .
فالمطلوب بالسورة أمران:أحدهما- الإيمان بالله حق الإيمان بأن يذعنوا لكل ما يكلفهم إياه ، وأن يعلموا مؤمنين بأنه القادر القاهر ، الناصر المعز المذل العليم الخبير ، أي يؤمنون بأنه واحد في ذاته وصفاته التي هي الكمال المطلق ، وأنه لا يعبد غيره .
والثاني – الجهاد مع رسول الهدى ودين الحق ؛ لأن الجهاد معه سبيل العزة ، ورفع الحق ، وخفض الباطل ، هذا هو الدين الحق ، ولكن المنافقين يفرون من الجهاد ، ولا يحتملونه في ذات أنفسهم ، وينفرون منه ولو كانوا ذوى قدرة ، ولذا قال تعالى فيهم:{ استأذنك أولوا الطول منهم} .
الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ،و{ استأذنك} أي طلبوا إذنك في أن يتخلفوا وحالهم تنافي طلبهم ، لأنهم{ أولوا الطول} أي أصحاب الطول والسعة والفضل في المال ، والطاقة البدنية التي تتحمل الجهاد بالنفس والمال{ منهم} ، والضمير في منهم يعود على المنافقين ، استأدنوك{ وقالوا ذرنا نكن مع القاعدين} أي أتركنا مع القاعدين من النساء والأطفال والضعفاء ، أي رضوا بالمنزل الدون والمكان الهون ، وذلك لأنهم بخلاء جبناء ، وبهم تفنى الأمم والجماعات .