قوله تعالى:{فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ} .
أي الاستسلام والخضوع .والمعنى: أظهروا كمال الطاعة والانقياد ،وتركوا ما كانوا عليه من الشقاق .وذلك عندما يعاينون الموت ،أو يوم القيامة .يعني أنهم في الدنيا يشاقون الرسل: أي يخالفونهم ويعادونهم ،فإذا عاينوا الحقيقة ألقوا السلم: أي خضعوا واستسلموا وانقادوا حيث لا ينفعهم ذلك .
ومما يدل من القرآن على أن المراد بإلقاء السلم: الخضوع والاستسلام قوله:{وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِناً} [ النساء:94] على قراءة نافع وابن عامر وحمزة بلا ألف بعد اللام ؛بمعنى الانقياد والإذغان .وقوله:{فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} [ النساء:90] ،وقوله:{فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ} [ النساء:91] الآية .
والقول بأن السلم في الآيتين الأخيرتين: الصلح والمهادنة لا ينافي ما ذكرنا ؛لأن المصالح منقاد مذعن لما وافق عليه من ترك السوء .وقوله:{وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [ النحل: 87] فكله بمعنى الاستسلام والخضوع والانقياد .والانقياد عند معاينة الموت لا ينفع ،كما قدمنا ،وكما دلت عليه آيات كثيرة .كقوله:{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ} [ النساء: 18] الآية ،وقوله:{فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} [ غافر: 85] الآية ،وقوله:{الآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [ يونس: 91] ،إلى غير ذلك من الآيات .
وقوله تعالى:{مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [ 28] .
يعني أن الذين تتوفاهم الملائكة في حال كونهم ظالمي أنفسهم إذا عاينوا الحقيقة ألقوا السلم وقالوا: ما كنا نعمل من سوء .فقوله{مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوء} معمول قول محذوف بلا خلاف .
والمعنى: أنهم ينكرون ما كانوا يعملون من السوء ،وهو الكفر وتكذيب الرسل والمعاصي .وقد بين الله كذبهم بقوله:{بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} .
وبين في مواضع أخر: أنهم ينكرون ما كانوا عليه من الكفر والمعاصي كما ذكر هنا .وبين كذبهم في ذلك أيضاً ؛كقوله:{ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [ الأنعام: 23-24] ،وقوله:{قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ} [ غافر:74] ؛وقوله:{يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهِ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [ المجادلة: 18] ،وقوله:{وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً} [ الفرقان: 22] أي حراماً محرماً أن تمسونا بسوء ؛لأنا لم نفعل ما نستحق به ذلك ،إلى غير ذلك من الآيات .
وقوله هنا «بلى » تكذيب لهم في قولهم{مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ} .
تنبيه
لفظة «بلى » لا تأتي في اللغة العربية إلا لأحد معنيين لا ثالث لهما:
الأولأن تأتي لإبطال نفي سابق في الكلام ،فهي نقيضة «لا » ؛لأن «لا » لنفي الإثبات ،و«بلى » لنفي النفي ؛كقوله هنا:{مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ} فهذا النفي نفته لفظة «بلى » أي كنتم تعملون السوء من الكفر والمعاصي ؛وكقوله:{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتُبْعَثُنَّ} [ التغابن: 7] ،وكقوله:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [ سبأ:3] وقوله:{وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [ البقرة:111] فإنه نفى هذا النفي بقوله جل وعلا{بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} [ البقرة: 112] الآية ،ومثل هذا كثير في القرآن وفي كلام العرب .
الثانيأن تكون جواباً لاستفهام مقترن بنفي خاصة ؛كقوله:{أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى} [ الأعراف: 172] ،وقوله:{أَوَلَيْسَ الَذِي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى} [ يس: 81] ،وقوله:{قَالُواْ أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُواْ بَلَى}[ غافر: 50] ،وهذا أيضاً كثير في القرآن وفي كلام العرب .أما إذا كان الاستفهام غير مقترن بنفي فجوابه ب «نعم » لا ب «بلى » وجواب الاستفهام المقترن بنفي و«نعم » مسموع غير قياسي .كقوله:
أليس الليل يجمع أم عمرو ***وإيانا فذاك لنا تداني
نعم ،وترى الهلال كما أراه*** وبعلوها النهار كما علاني
فالمحل ل«بلى » لا ل«نعم » في هذا البيت .
فإن قيل: هذه الآيات تدل على أن الكفار يكتمون يوم القيامة ما كانوا عليه من الكفر والمعاصي ،كقوله عنهم:{وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [ الأنعام:23] ،وقوله:{مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ} ،ونحو ذلك .مع أن الله صرح بأنهم لا يكتمون حديثاً في قوله:
{وَلاَ يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} [ النساء: 42] .
فالجوابهو ما قدمنا من أنهم يقولون بألسنتهم: والله ربنا ما كنا مشركين ؛فيختم الله على أفواههم ؛وتتكلم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يكسبون .فالكتم باعتبار النطق بالجحود وبالألسنة .وعدم الكتم باعتبار شهادة أعضائهم عليهم .والعلم عند الله تعالى .