قوله تعالى:{وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي ءَاذَانِهِمْ وَقْرًا} .
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه جعل على قلوب الكفار أكنة ،( جمع كنان ) وهو ما يستر الشيء ويغطيه ويكنه ،لئلا يفقهوا القرآن .أو كراهة أن يفقهوه لحيلولة تلك الأكنة بين قلوبهم وبين فقه القرآن ؛أي فهم معانيه فهماً ينتفع به صاحبه .وأنه جعل في آذانهم وقرأ أي صمماً وثقلاً لئلا يسمعوه سماع قبول وانتفاع .
وبين في مواضع أخر سبب الحيلولة بين القلوب وبين الانتفاع به ،وأنه هو كفرهم ،فجازاهم الله على كفرهم بطمس البصائر ،وإزاغة القلوب والطبع والختم والأكنة المانعة من وصول الخير إليها ،كقوله تعالى:{فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [ الصف: 5] الآية ،وقوله:{بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [ النساء: 155] ،وقوله:{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [ الأنعام: 110] الآية ،وقوله:{في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [ البقرة: 10] ،وقوله:{وَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [ التوبة: 125] ،إلى غير ذلك من الآيات .
تنبيه
في هذه الآية الكريمةالرد الواضح على القدرية في قولهم: إن الشر لا يقع بمشيئة الله ،بل بمشيئة العبد ؛سبحان الله وتعالى علواً كبيراً عن أن يقع في ملكه شيء ليس بمشيئته ؟{وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكُواْ} [ الأنعام: 107] ،{وَلَوْ شِئْنَا لأتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} [ السجدة: 13] الآية ،{وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [ الأنعام: 53] إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى:{وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ في الْقُرْءَانِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً} [ 46] .بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة ،أن نبيه صلى الله عليه وسلم إذا ذكر ربه وحده في القرآن بأن قال «لا إله لا الله » ولى الكافرون على أدبارهم نفوراً ،بغضاً منهم لكلمة التوحيد ،ومحبة للإشراك به جل وعلا .
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر ،مبيناً أن نفورهم من ذكره وحده جل وعلا سبب خلودهم في النار ،كقوله:{وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [ الزمر: 45] ،وقوله:{ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فَالْحُكْمُ للَّهِ الْعَلِىِّ الْكَبِيرِ} [ غافر:12] ،وقوله:{إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَءِنَّا لَتَارِكُو ءَالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ} [ الصافات: 35-36] ،وقوله:{كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [ الشورى: 13] الآية ،وقوله:{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ في وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا} [ الحج: 72] ،وقوله:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [ فصلت: 27] .
وقوله في هذه الآية:{نُفُوراً} جمع نافر ؛فهو حال .أي ولوا على أدبارهم في حال كونهم نافرين من ذكر الله وحده من دون إشراك .والفاعل يجمع على فعول كساجد وسجود ،وراكع وركوع .
وقال بعض العلماء: «نفوراً » مصدر ،وعليه فهو ما ناب عن المطلق من قوله{وَلَّوْاْ} لأن التولية عن ذكره وحده بمعنى النفور منه .