وقوله في هذه الآية{ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا} فعيل بمعنى فاعل ؛أي تابعا يتبعنا بالمطالبة بثأركم ؛كقوله{فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا} [ الشمس: 14-15] أي لا يخاف عاقبة تبعة تلحقه بذلك .وكل مطالب بدين أو ثأر أو غير ذلك تسميه العرب تبيعاً ؛ومنه قول الشماخ يصف عقاباً: تلوذ ثعالب الشرفين منها*** كما لاذ الغريم من التبيع
أي كعياذ المدين من صاحب الدين الذي يطالبه بغرمه منه . ومنه قول الآخر:
غدوا وغدت غزلانهم وكأنها ***ضوامن غرم لدهن تبيع
أي خصمهن مطالب بدين ،ومن هذا القبيل قوله تعالى:{فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [ البقرة: 178] الآية ،وقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا أتبع أحدكم على مليء فليتبع » وهذا هو معنى قول ابن عباس وغيره «تبيعا » أي نصيراً ،وقول مجاهد نصيراً ثائراً .
تنبيه
لا يخفى على الناظر في هذه الآية الكريمة: أن الله ذم الكفار وعاتبهم بأنهم في وقت الشدائد والأهوال خاصة يخلصون العبادة له وحده ،ولا يصرفون شيئاً من حقه لمخلوق .وفي وقت الأمن والعافية يشركون به غيره في حقوقه الواجبة له وحده ،التي هي عبادته وحده في جميع أنواع العبادة ،ويعلم من ذلك أن بعض جهلة المتسمين باسم الإسلام أسوأ حالاً من عبدة الأوثان ؛فإنهم إذا دهمتهم الشدائد ،وغشيتهم الأهوال والكروب التجؤوا إلى غير الله ممن يعتقدون فيه الصلاح ؛في الوقت الذي يخلص فيه الكفار العبادة لله .مع أن الله جل وعلا أوضح في غير موضع: أن إجابة المضطر ،وإنجاءه من الكرب من حقوقه التي لا يشاركه فيها غيره .
ومن أوضح الأدلة في ذلك قوله تعالى «في سورة النمل »:{ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّن جَعَلَ الأرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإلهٌ مَّعَ الله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [ النمل: 95-62] الآيات .فتراه جل وعلا في هذه الآية الكريمات جعل إجابة المضطر إذا دعا وكشف السوء عنه من حقه الخالص الذي لا يشاركه فيه أحد .كخلقه السموات والأرض ،وإنزاله الماء من السماء ،وإنباته به الشجر ،وجعله الأرض قراراً ،وجعله خلالها أنهاراً ،وجعله لها رواسي ،وجعله بين البحرين حاجزاً ،إلى آخر ما ذكر في هذه الآيات من غرائب صنعه وعجائبه التي لا يشاركه فيها أحد .سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً .
وهذا الذي ذكره الله جل وعلا في هذه الآيات الكريمات: كان سبب إسلام عكرمة بن أبي جهل ؛فإنه لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب فاراً منه إلى بلاد الحبشة ،فركب في البحر متوجهاً إلى الحبشة ؛فجاءتهم ريح عاصف فقال القوم بعضهم لبعض: إنه لا يفنى عنكم إلا أن تدعوا الله وحده .فقال عكرمة في نفسه: والله إن كان لا ينفع في البحر غيره فإنه لا ينفع في البر غيره !اللهم لك علي عهد ،لئن أخرجتني منه لأذهبن فلأضعن يدي في يد محمد صلى الله عليه وسلم فلأجدنه رؤوفاً رحيماً .فخرجوا من البحر ،فخرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسن إسلامه رضي الله عنه اه .
والظاهر أن الضمير في قوله{بِهِ تَبِيعًا} راجع إلى الإهلاك بالإغراق المفهوم من قوله{فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ} أي لا تجدون تبيعاً يتبعنا بثأركم بسبب ذلك الإغراق .
وقال صاحب روح المعاني .وضمير «به » قيل للإرسال ،وقيل للإغراق ،وقيل لهما باعتبار ما وقع .والعلم عند الله تعالى .