وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة:{مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبائهم} يعني أن ما نسبوه له جلَّ وعلا من اتخاذ الولد لا علم لهم به .لأنه مستحيل .
والآية تدل دلالة واضحة على أن نفي الفعل لا يدل على إمكانه ؛ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى:{وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ 57} لأن ظلمهم لربنا وحصول العلم لهم باتخاذه الولدكل ذلك مستحيل عقلاً ؛فنفيه لا يدل على إمكانه .ومن هذا القبيل قول المنطقيين: السالبة لا تقتضى وجود الموضوع ،كما بيناه في غير هذا الموضع .
وما نفاه عنهم وعن آبائهم من العلم باتخاذه الولد سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراًبينه في مواضع أخر ،كقوله:{وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ 100} ،وقوله في آبائهم:{أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آباءنا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ 104} إلى غير ذلك من الآيات .
وقوله في هذه الآية الكريمة:{كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} يعني أن ما قالوه بأفواههم من أن الله اتخذ ولداً أمر كبير عظيم ؛كما بينا الآيات الدالة على عظمه آنفاً ؛كقوله:{إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا 40} ،وقوله:{تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً 90} الآية .وكفى بهذا كبراً وعظماً .
وقال بعض علماء العربية: إن قوله{كَبُرَتْ كَلِمَةً} معناه التعجب .فهو بمعنى ما أكبرها كلمة .أو أكبر بها كلمة .
والمقرر في علم النحو: أن «فعل » بالضم تصاغ لإنشاء الذم والمدح ،فتكون من باب نعم وبئس ،ومنه قوله تعالى:{كَبُرَتْ كَلِمَةً} الآية .وإلى هذا أشار في الخلاصة بقوله:
واجعل كبئس ساء واجعل فعلا *** من ذي ثلاثة كنعم مسجلا
وقوله «كنعم » أي اجعله من باب «نعم » فيشمل بئس .وإذا تقرر ذلك ففاعل «كبر » ضمير محذوف و{كَلِمَةَ} نكرة مميزة للضمير المحذوف ؛على حد قوله في الخلاصة .
ويرفعان مضمراً يفسره *** مميز كنعم قوماً معشره
والمخصوص بالذم محذوف ،والتقدير: كبرت هي كلمة خارجة من أفواههم تلك المقالة التي فاهوا بها ،وهي قولهم: اتخذ الله ولداً ،وأعرب بعضهم{كَلِمَةَ} بأنها حال ،أي كبرت فريتهم في حال كونها كلمة خارجة من أفواههم .وليس بشيء .
وقال ابن كثير في تفسيره{تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} أي ليس لها مستند سوى قولهم ولا دليل لهم عليها إلا كذبهم وافتراؤهم ،ولذا قال:{إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا 5} .
وهذا المعنى الذي ذكره ابن كثير له شواهد في القرآن .كقوله:{يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ في قُلُوبِهِمْ} ونحو ذلك من الآيات .
والكذب: مخالفة الخبر للواقع على أصح الأقوال .
فائدة
لفظة «كبر » إذا أريد بها غير الكبر في السن فهي مضمومة الباء في الماضي والمضارع ،كقوله هنا{كَبُرَتْ كَلِمَةً} الآية ،وقوله:{كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ 3} ،وقوله:{أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ في صُدُورِكُمْ} ونحو ذلك .
وإن كان المراد بها الكبر في السن فهي مكسورة الباء في الماضي ،مفتوحتها في المضارع على القياس ،ومن ذلك قوله تعالى:{وَلاَ تأكلوها إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ} ،وقول المجنون:
تعشقت ليلى وهي ذات ذوائب *** ولم يبد للعينين من ثديها حجم
صغيرين نرعى إليهم يا ليت أننا *** إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم
وقوله في هذا البيت «صغيرين » شاهد عند أهل العربية في إتيان الحال من الفاعل والمفعول معاً .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة{كَبُرَتْ كَلِمَةً} يعني بالكلمة: الكلام الذي هو قولهم{اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا 4} .
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة من أن الله يطلق اسم الكلمة على الكلام أوضحته آيات أخر .كقوله:{كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قائلها} الآية ،والمراد بها قوله:{قَالَ رَبِّ ارْجِعُون 99ِلَعَلِّى أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} .وقوله:{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأملان جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ 119} وما جاء لفظ الكلمة في القرآن إلا مراداً به الكلام المفيد .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة{عِوَجَا 1} هو بكسر العين في المعاني كما في هذه الآية الكريمة .وبفتحها فيما كان منتصباً كالحائط .
قال الجوهري في صحاحه: قال ابن السكيت: وكل ما كان ينتصب كالحائط والعود قيل فيه «عوج » بالفتح .والعوجبالكسرما كان في أرض أو دين أو معاش ،يقال في دينه عوج ا ه .
وقرأ هذا الحرف حفص عن عاصم في الوصل{عِوَجَا} بالسكت على الألف المبدلة من التنوين سكتة يسيرة من غير تنفس ،إشعاراً بأن{قَيِّماً} ليس متصلاً ب{عِوَجَا} في المعنى بل للإشارة إلى أنه منصوب بفعل مقدر ،أي جعله قيماً كما قدمنا .
وقرأ أبو بكر عن عاصم{مِّن لَّدُنْهُ} بإسكان الدال مع إشمامها الضم وكسر النون والهاء ووصلها بياء في اللفظ .
وقوله:{وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ} قرأه الجمهور بضم الياء وفتح الباء الموحدة وكسر الشين مشددة .وقرأه حمزة والكسائي «يبشر » بفتح الياء وإسكان الباء الموحدة وضم الشين .