وأظهر الأقوال في الجملة المقدرة التي عوض عنها تنوين «يومئذ » من قوله{وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ في بَعْضٍ} أنه يوم إذ جاء وعد ربي بخروجهم وانتشارهم في الأرض .ولا ينبغي العدول عن هذا القول لموافقته لظاهر سياق القرآن العظيم .وإذا تقرر أن معنى «يومئذ » يوم إذ جاء الوعد بخروجهم وانتشارهمفاعلم أن الضمير في قوله{وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ} على القول بأنه لجميع بني آدم فالمراد يوم القيامة .وإذاً فقد دلت الآية على اقترانه بالخروج إذا دك السد ،وقربه منه .وعلى القول بأن الضمير راجع إلى يأجوج ومأجوج .فقوله بعده{وَنُفِخَ في الصُّورِ} يدل في الجملة على أنه قريب منه .قال الزمخشري في تفسير هذه الآية «قال هذا رحمة من ربي » هو إشارة إلى السد ؛أي هذا السد نعمة من الله ورحمة على عباده .أو هذا الإقدار والتمكين من تسويته{فَإِذَا جاء وَعْدُ ربّي} يعني فإذا دنا مجيء يوم القيامة ،وشارف أن يأتي جعل السد دكا ؛أي مدكوكاً مبسوطاً مسوى بالأرض .وكل ما انبسط من بعد ارتفاع فقد اندك ؛ومنه الجمل الأدك المنبسط السنام ا ه .
وآية الأنبياء المشار إليها هي قوله تعالى:{حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ 96 وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هي شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} الآية ؛لأن قوله:{حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} وإتباعه لذلك بقوله{وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هي شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} يدل في الجملة على ما ذكرنا في تفسير آية الكهف التي نحن بصددها .وذلك يدل على بطلان قول من قال: إنهم روسية ،وأن السد فتح منذ زمان طويل .فإذا قيل: إنما تدل الآيات المذكورة في «الكهف » و«الأنبياء » على مطلق اقتراب يوم القيامة من دك السد واقترابه من يوم القيامةلا ينافي كونه قد وقع بالفعل ؛كما قال تعالى:{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} الآية .وقال:{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ 1} ،وقال النَّبي صلى الله عليه وسلم: «ويل للعرب ،من شر قد اقترب ،فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذهوحلق بأصبعيه الإبهام والتي تليها ..» الحديث ،وقد قدمنا في سورة «المائدة » .فقد دل القرآن والسنة الصحيحة على أن اقتراب ما ذكر لا يستلزم اقترانه به ،بل يصح اقترابه مع مهلة ،وإذاً فلا ينافي دك السد الماضي الزعوم الاقتراب من يوم القيامة ،فلا يكون في الآيات المذكورة دليل على أنه لم يدك السد إلى الآن .
فالجوابهو ما قدمنا أن هذا البيان بهذه الآيات ليس وافياً بتمام الإيضاح إلا بضميمة السنة له ،ولذلك ذكرنا أننا نتمم مثله من السنة لأنها مبينة للقرآن .قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه: حدثنا أبو خيثمة زهير بن حرب ،حدثنا الوليد بن مسلم ،حدثني عبد الرحمن بن يزيد بن جابر ،حدثني يحيى بن جابر الطائي قاضي حمص ،حدثني عبد الرحمن بن جبير عن أبيه جبير بن نفير الحضرمي: أنه سمع النواس بن سمعان الكلابي ( ح ) وحدثني محمد بن مهران الرازي ( واللفظ له ) ،حدثني الوليد بن مسلم ،حدثنا عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن يحيى بن جابر الطائي ،عن عبد الرحمن بن جبير بن نفير عن أبيه جبير بن نفير ،عن النواس بن سمعان قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة النخل ،فلما رحنا إليه عرف ذلك فينا فقال: «ما شأنكم » ؟قلنا: يا رسول الله ،ذكرت الدجال غداة فخفضت فيه ورفعت ،حتى ظنناه في طائفة النخل ؟فقال: «غير الدجال أخوفني عليكم !إن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم ،وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه ،والله خليفتي هل كل مسلم .إنه شاب قطط ،عينه طائفته ،كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن ،فمن أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة «الكهف » إنه خارج خلة بين الشام والعراق ،فعاث يميناً وعاث شمالاً .«يا عباد فاثبتوا » قلنا: يا رسول الله ،وما لبثه في الأرض ؟قال: «أربعون يوماً ،يوم ،كسنة ،ويوم كشهر ،ويوم كجمعة ،وسائر أيامه كأيامكم » قلنا: يا رسول الله ،فذلك اليوم الذي كسنه ،أتكفينا فيه صلاة يوم ؟قال: «لا ،أقدروا له قدره » قلنا: يا رسول الله ،وما إسراعه في الأرض ؟قال: «كالغيث استدبرته الريح » .فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له: فيأمر السماء فتمطر ،والأرض فتنبت ،فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذراً وأسبغه ضروعاً ،وأمده خواصرثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليه قوله ؛فينصرف عنهم فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم ،ويمر بالخربة فيقول لها أخرجي كنوزك ،فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل ،ثم يدعو رجلاً ممتلئاً شباباً فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ،ثم يدعون فيقبل ويتهلل وجهه يضحك .فبينما هو كذلك إذ بعث الله المسيح بن مريم ،فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين ،واضعاً كفيه على أجنحة ملكين ،إذا طأطأ رأسه قطر ،وإذا رفعه تحدر منه جمان كاللؤلؤ .فلا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ،ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه ،فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله .ثم يأتي عيسى بن مريم قوم قد عصمهم الله منه ،فيمسح عن وجوههم ،ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة فبينما هو كذلك إذ أوحى الله إلى عيسى: إني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم ،فحرز عبادي إلى الطور .ويبعث الله يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون ؛فيمر أوائلهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ،ويمر آخرهم فيقولون لقد كان بهذه مرة ماء ،ويحصر نبي الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيراً من مائة دينار لأحدكم اليوم .فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم .فيصبحون فرسي كموت نفس واحدة .ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأه زهمهم ونتنهم ؛فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل الله طيراً كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله .ثم يرسل الله مطراً لا يكن منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزلفة ثم يقال للأرض: انبتي ثمرتك ،وردي بركتك ،فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ،ويستظلون بقحفها ،يبارك في الرسل حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس .واللقحة من البقر لتكفي القبيلة من الناس .واللقحة من الغنم لتكفي الفخذ الفخذ من الناس .فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحاً طيبة فتأخذهم تحت آباطهم ؛فتقبض روح كل مؤمن وكل مسلم .ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر فعليهم تقوم الساعة » انتهى بلفظه من صحيح مسلم رحمه الله تعالى .
وهذا الحديث الصحيح قد رأيت فيه تصريح النَّبي صلى الله عليه وسلم: بأن الله يوحي إلى عيسى بن مريم خروج يأجوج ومأجوج بعد قتله الدجال .فمن يدعي أنهم روسية .وأن السد قد اندك منذ زمان فهو مخالف لما أخبر به النَّبي صلى الله عليه وسلم مخالفة صريحة لا وجه لها .ولا شك أن كل خبر ناقض خبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم فهو باطل ؛لأن نقيض الخبر الصادق كاذب ضرورة كما هو معلوم .ولم يثبت في كتاب الله ولا سنة نبيه صلى الله عليه وسلم شيء يعارض هذا الحديث الذي رأيت صحة سنده ،ووضوح دلالته على المقصود .
والعمدة في الحقيقة لمن ادعى أن يأجوج ومأجوج هم روسية ،ومن ادعى من الملحدين أنهم لا وجود لهم أصلاًهي حجة عقلية في زعم صاحبها ،وهي بحسب المقرر في الجدل قياس استثنائي مركب من شرطية متصلة لزومية في زعم المستدل به يستثنى فيه نقيض التالي ،فينتج نقيض المقدم .وصورة نظمه أن يقول: لو كان يأجوج ومأجوج وراء السد إلى الآن ،لا طلع عليهم الناس لتطور طرق المواصلات ،لكنهم لم يطلع عليهم أحد ينتج فهم ليسوا وراء السد إلى الآن ،لأن استثناء نقيض التالي ينتج نقيض المقدم كما هو معلوم .وبعبارة أوضح لغير المنطقي: لأن نفي اللازم يقتضي نفي اللازم يقتضي نفي الملزومهذا هو عمدة حجة المنكرين وجودهم إلى الآن وراء السد .ومن المعلوم أن القياس الاستثنائي المعروف بالشرطي ،إذا كان مركباً من شرطية متصلة واستثنائية ،فإنه يتوجه عليه القدح من ثلاث وجهات:
الأولىأن يقدح فيه من جهة شرطيته ،لكون الربط بين المقدم والتالي ليس صحيحاً .
الثانيةأن يقدح فيه من جهة استثنائيته .
الثالثةأن يقدح فيه من جهتهما معاً .وهذا القياس المزعوم يقدح فيه من جهة شرطيته فيقول للمعترض: الربط فيه بين المقدم والتالي غير صحيح .فقولكم: لو كانوا موجودين وراء السد إلى الآن لاطلع عليهم الناس غير صحيح ؛لإمكان أن يكونوا موجودين والله يخفي مكانهم على عامة الناس حتى يأتي الوقت المحدد لإخراجهم على الناس ،ومما يؤيد إمكان هذا ما ذكره الله تعالى في سورة «المائدة » من أنه جعل بني إسرائيل يتيهون في الأرض أربعين سنة .وذلك في قوله تعالى:{قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ في الأرض} الآية ،وهم في فراسخ قليلة من الأرض ،يمشون ليلهم ونهارهم ولم يطلع عليهم الناس حتى انتهى أمد التيه ،لأنهم لو اجتمعوا بالناس لبينوا لهم الطريق .وعلى كل حال ،فربك فعال لما يريد .وأخبار رسوله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه صادقة ،وما يوجد بين أهل الكتاب مما يخالف ما ذكرنا ونحوه من القصص الواردة في القرآن والسنة الصحيحة ،زاعمين أنه منزل في التوراة أو غير من الكتب السماويةباطل يقيناً لا يعول علينا ؛لأن الله جل وعلا صرح في هذا القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد بأنهم بدلوا وحرفوا وغيروا في كتبهم ،كقوله:{يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} ،وقوله:{تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً} ،وقوله:{فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ 79} ،وقوله تعالى:{وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ 78} إلى غير ذلك من الآياتبخلاف هذا القرآن العظيم ،فقد تولى الله جل وعلا حفظه بنفسه ،ولم يكلمه أحد حتى يغير فيه أو يبدل أو يحرف ،كما قال تعالى:{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ 9} ،وقال:{لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ 16 إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} ،وقال:{لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} .وقال في النَّبي صلى الله عليه وسلم:{وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى 3 إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْىٌ يُوحَى 4} ،وقد صح عن النَّبي صلى الله عليه وسلم أنه أذن لأمته أن تحدث عن بني إسرائيل ،ونهاهم عن تصديقهم وتكذيبهم ،خوف أن يصدقوا بباطل ،أو يكذبوا بحق .
ومن المعلوم أن ما يروى عن بني إسرائيل من الأخبار المعروفة بالإسرائيليات له ثلاث حالات: في واحدة منها يجب تصديقه ،وهي ما إذا دل الكتاب أو السنة الثابتة على صدقه .وفي واحدة يجب تكذيبه ،وهي ما إذا دل القرآن أو السنة أيضاً على كذبه .وفي الثالثة لا يجوز التكذيب ولا التصديق ،كما في الحديث المشار إليه آنفاً: وهي ما إذا لم يثبت في كتاب ولا سنة صدقه ولا كذبه .وبهذا التحقيقتعلم أن القصص المخالفة للقرآن والسنة الصحيحة التي توجه بأيدي بعضهم ،زاعمين أنها في الكتب المنزلةيجب تكذيبهم فيها لمخالفتها نصوص الوحي الصحيح ،التي لم تحرف ولم تبدل .والعلم عند الله تعالى .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة:{جَعَلَهُ دَكَّاءَ} قرأه نافع وابن كثير وابن عامر وأبو عمرو «دكاً » بالتنوين مصدر دكه .وقرأه عاصم وحمزة والكسائي{جَعَلَهُ دَكَّاء} بألف التأنيث الممدودة تأنيث الأدك .ومعنى القراءتين راجع إلى شيء واحد ،وقد قدمنا إيضاحه .