قوله تعالى:{قَالَ كَذلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ} .
قد قدمنا تفسير هذه الآية مستوفى في قصة زكريا ،فأغنى عن إعادته هنا .وقول جبريل لمريم في هذه الآية:{كَذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَىَّ هَيِّنٌ} أي وستلدين ذلك الغلام المبشر به من غير أن يمسك بشر ،وقد أشار تعالى إلى معنى هذه الآية في سورة «آل عمران » في قوله:{قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ 47} .
قوله تعالى:{وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً 21} .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن من حكم خلقه عيسى من امرأة بغير زوج ليجعل ذلك آية للناس .أي علامة دالة على كمال قدرته .وأنه تعالى يخلق ما يشاء كيف يشاء: إن شاء خلقه من أنثى بدون ذكر كما فعل بعيسى .وإن شاء خلقه من ذكر بدون أنثى كما فعل بحواء .كما نص على ذلك في قوله:{وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} أي خلق من تلك النفس التي هي آدم زوجها حواء .وإن شاء خلقه بدون الذكر والأنثى معاً كما فعل بآدم .وإن شاء خلقه من ذكر وأنثى كما فعل بسائر بني آدم .فسبحان الله العظيم القادر على كل شيء ؟وما ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: من كونه جعل عيسى آية حيث ولدته أمه من غير زوج أشار له أيضاً في «الأنبياء » بقوله:{وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِّلْعَالَمِينَ 91} ،وفي «الفلاح » بقوله:{وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا} الآية .
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة:{وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ} فيه حذف دل المقام عليه .قال الزمخشري في الكشاف:{وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ} تعليل معلله محذوف .أي ولنجعله آية للناس فعلنا ذلك .أو هو معطوف على تعليل مضمر ،أي لنبيِّن به قدرتنا ولنجعله آية .ونحوه{وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} ،وقوله:{وَكَذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ في الأرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ} ا ه .
وقوله في هذه الآية{وَرَحْمَةً مّنَّا} أي لمن آمن به .ومن كفر به فلم يبتغ الرحمة لنفسه ،كما قال تعالى في نبينا صلى الله عليه وسلم:{وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ 108} ،وقوله تعالى:{نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذلك} أي وكان وجود ذلك الغلام منك أمراً مقضياً ،أي مقدراً في الأزل ،مسطوراً في اللوح المحفوظ لا بد من وقوعه ،فهو واقع لا محالة .