قوله تعالى:{حَتَّى إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأرُونَ * لاَ تَجْأرُواْ الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ} .
حتى هنا في هذه الآية التي يبتدأ بعدها الكلام ،والكلام الجملة الشرطية ،والعذاب الذي أخذهم ربهم به ،قيل: هو عذاب يوم بدر بالقتل والأسر ،وقيل: الجوع والقحط الشديد الذي أصابهم ،لما دعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال «اللهم اشدد وطأتك على مضر اللهم اجعلها عليهم سنين كسني يوسف » فأصابهم بسبب دعوته صلى الله عليه وسلم من الجوع الشديد ،عذاب أليم ،وأظهرها عندي أنه أخذهم بالعذاب يوم القيامة .وقد بين تعالى في هاتين الآيتين أنه أخذ مترفيهم بالعذاب ،والمترفون هم أصحاب النعمة والرفاهية في دار الدنيا .وهذا المعنى أشار له بقوله:{وَذَرْنِى وَالْمُكَذِّبِينَ أُوْلِى النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً * إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً * وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً} [ المزمل:11-13] فقوله: أولي النعمة يريد بهم: المترفين في الدنيا ،وبين أنه سيعذبهم بعد التهديد بقوله:{إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً} وقوله: يجأرون ،الجؤار: الصراخ باستغاثة ،والعرب تقول: جأر الثور يجأر: صاح ،فالجؤار كالخوار وفي بعض القراءات عجلاً جسداً له جؤار بالجيم والهمزة: أي خوار ،وجأر الرجل إلى الله: تضرع بالدعاء .
فمعنى الآية الكريمة: أن المنعمين في الدنيا من الكفار ،إذا أخذهم الله بالعذاب يوم القيامة ،صاحوا مستصرخين مستغيثين ،يطلبون الخلاص مما هم فيه ،وصراخهم واستغاثتهم المشار له هنا ،جاء في آيات أخر كقوله تعالى:{وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِى كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ} [ فاطر:37] فقوله: يصطرخون: يفتعلون من الصراخ ،مستغيثين يريدون الخروج مما هم فيه ،بدليل قوله تعالى عنهم{رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ} [ فاطر:37] فهذا الصراخ المذكور في هذه الآية العام للمترفين وغيرهم ،هو الجؤار المذكور عن المترفين هنا ،ومن إطلاق العرب الجؤار على الصراخ والدعاء للاستغاثة قول الأعشى:
يراوح من صلوات المليك *** فطورا سجودا وطورا جؤارا
والجؤار المذكور: هو النداء في قوله{كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ} [ ص:3] لأن نداءهم نداء استغاثة واستصراخ وكقوله تعالى:{وَنَادَوْاْ يا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [ الزخرف:77] ،لأن القضاء عليهم من أعظم الأمور التي يطلبونها ،فيستغيثون بالموت من دوام ذلك العذاب الشديد ،أجارنا الله وإخواننا المسلمين منه وكقوله تعالى:{وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً * لاَّ تَدْعُواْ الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً} [ الفرقان:13-14] وذلك الدعاء بالثبور الذي هو أعظم الهلاك ،والويل عن أنواع جؤارهم والعياذ بالله .