قوله تعالى:{وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ} .
قد قدمنا في سورة «بني إسرائيل » ،في الكلام على قوله تعالى:{لاَّ تَجْعَل مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً} [ الإسراء: 22] ،أن اللَّه تعالى قد بيَّن في بعض الآيات القرآنية أنه يخاطب النبيّ صلى الله عليه وسلم بخطاب لا يريد به نفس رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ،وإنما يريد به التشريع .
وبيَّنا أن من أصرح الآيات في ذلك قوله تعالى مخاطبًا له صلى الله عليه وسلم:{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ} [ الإسراء: 23] الآية ،ومعلوم أن والديه قد ماتا قبل نزول:{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا} ،بزمن طويل ،فلا وجه البتّة لاشتراط بلوغهما ،أو بلوغ أحدهما الكبر عنده ،بل المراد تشريع برّ الوالدين لأُمّته ،بخطابه صلى الله عليه وسلم .
واعلم أن قول من يقول: إن الخطاب في قوله:{إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا} ،لمن يصح خطابه من المكلّفين ،وأنه كقول طرفة بن العبد:
*ستبدى لك الأيام ما كنت جاهلاً*
خلاف الصواب .
والدليل على ذلك قوله بعد ذكر المعطوفات ،على قوله:{فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ} ،{ذالِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ} [ الإسراء: 39] الآية ،ومعلوم أن قوله:{ذالِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ} خطاب له صلى الله عليه وسلم ،كما ترى .وذكرنا بعض الشواهد العربية على خطاب الإنسان ،مع أن المراد بالخطاب في الحقيقة غيره .
وبهذا تعلم أن مثل قوله تعالى:{وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ} ،وقوله:{لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [ الزمر: 65] ،وقوله:{وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [ الإنسان: 24] ،وقوله:{لاَّ تَجْعَل مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} [ الإسراء: 22] ،يراد به التشريع لأُمّته ؛لأنه صلى الله عليه وسلم معصوم من ذلك الكفر الذي نهى عنه .
فائدة
روي من غير وجه: أن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه ناداه رجل من الخوارج في صلاة الفجر ،فقال:{وَلَقَدْ أُوْحِىَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [ الزمر: 65] ،فأجابه عليّ رضي اللَّه عنه وهو في الصّلاة:{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لاَ يُوقِنُونَ} [ الروم: 60] .
تم بحمد الله تفسير سورة الروم