قوله تعالى:{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِيَمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} .
أظهر أقوال أهل العلم عندي هو أن الفتح في هذه الآية الكريمة هو الحكم والقضاء ،وقد قدّمنا أن الفتاح: القاضي ،وهي لغة حميرية قديمة ،والفتاحة: الحكم والقضاء ،ومنه قوله:
ألا من مبلغ عمرًا رسولا*** بأني عن فتاحتكم غني
وقد جاءت آيات تدلّ على أن الفتح الحكم ؛كقوله تعالى عن نبيّه شعيب:{عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ} [ الأعراف: 89] ،أي: احكم بيننا بالحق ،وأنت خير الحاكمين .
وقوله تعالى عن نبيّه نوح:{قَالَ رَبّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً} [ الشعراء: 117-118] الآية ،أي: احكم بيني وبينهم حكمًا .وقوله تعالى:{قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} [ سبأ: 26] ،وقوله تعالى:{إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ} [ الأنفال: 19] ،أي: إن تطلبوا الحكم بهلاك الظالم منكم ،ومن النبيّ صلى الله عليه وسلم فقد جاءكم الفتح ،أي: الحكم بهلاك الظالم وهو هلاكهم يوم بدر ؛كما قاله غير واحد .وقد ذكروا أنهم لما أرادوا الخروج إلى بدر ،جاء أبو جهل ،وتعلّق بأستار الكعبة ،وقال: اللَّهمّ إنا قطان بيتك نسقي الحجيج ،ونفعل ونفعل ،وإن محمّدًا قطع الرحم وفرّق الجماعة ،وعاب الدّين ،وشتم الآلهة ،وسفّه أحلام الآباء ،اللهم أهلك الظالم منّا ومنه ،فطلب الحكم على الظالم ،فجاءهم الحكم على الظالم فقتلوا ببدر ،وصاروا إلى الخلود في النار ،إلى غير ذلك من الآيات .
وعلى قول من قال من أهل العلم: إن المراد بالفتح في الآية الحكم والقضاء بينهم يوم القيامة ،فلا إشكال في قوله تعالى:{قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِيَمَانُهُمْ} ،وعلى القول بأن المراد بالفتح في الآية الحكم بينهم في الدنيا بهلاك الكفّار ،كما وقع يوم بدر .فالظاهر أن معنى قوله تعالى:{قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِيَمَانُهُمْ} ،أي: إذا عاينوا الموت وشاهدوا القتل ،بدليل قوله تعالى:{فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قَالُواْ ءامَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ في عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [ غافر: 84-85] ،وقوله تعالى:{وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنّي تُبْتُ الآنَ} [ النساء: 18] الآية ،وقوله تعالى في فرعون:{حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنواْ إِسْرائيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ * ءالئَنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [ يونس: 90-91] .ولا يخفى أن قول من قال من أهل العلم: إن الفتح في هذه الآية فتح مكّة أنه غير صواب ،بدليل قوله تعالى:{قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لاَ يَنفَعُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِيَمَانُهُمْ} ومعلوم أن فتح مكّة لا يمنع انتفاع المؤمن في وقته بإيمانه ،كما لا يخفى .