وقوله:{فَأغْشَيْنَاهُمْ} ،أي: جعلنا على أبصارهم الغشاوة ،وهي الغطاء الذي يكون على العين يمنعها من الإبصار ،ومنه قوله تعالى:{وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [ البقرة: 7] ،وقوله تعالى:{وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [ الجاثية: 23] ،وقول الشاعر وهو الحارث بن خالد بن العاص:
هويتك إذ عيني عليها غشاوة ***فلمّا انجلت قطّعت نفسي ألومها
والمراد بالآية الكريمة: أن هؤلاء الأشقياء الذين سبقت لهم الشقاوة في علم اللَّه المذكورين في قوله تعالى:{لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ} [ يس: 7] ،صرفهم اللَّه عن الإيمان صرفًا عظيمًا مانعًا من وصوله إليهم ؛لأن من جعل في عنقه غلّ ،وصار الغلّ إلى ذقنه ،حتى صار رأسه مرفوعًا لا يقدر أن يطأطئه ،وجعل أمامه سدّ ،وخلفه سدّ ،وجعل على بصره الغشاوة لا حيلة له في التصرّف ،ولا في جلب نفع لنفسه ،ولا في دفع ضرّ عنها ،فالذين أشقاهم اللَّه بهذه المثابة لا يصل إليهم خير .
وهذا المعنى الذي دلَّت عليه هذه الآية الكريمة من كونه جلَّ وعلا يصرف الأشقياء الذين سبقت لهم الشقاوة في علمه عن الحق ويحول بينهم وبينه ،جاء موضحًا في آيات كثيرة ؛كقوله تعالى:{إنّا جعلنا على قلوبهم أكنّة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا} [ الكهف: 57] وقوله تعالى:{خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [ البقرة: 7] ،وقوله تعالى:{أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [ الجاثية: 23] ،وقوله تعالى:{وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ في السَّمَاء} [ الأنعام: 125] ،وقوله تعالى:{وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ} [ الأعراف: 186] ،وقوله تعالى:{وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم} [ المائدة: 41] .
وقوله تعالى:{أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [ النحل: 108] ،وقوله تعالى:{وَمَا كَانَ لَهُمْ مّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاء يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ} [ هود: 20] ،وقوله تعالى:{الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ في غِطَاء عَن ذِكْرِى وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} [ الكهف: 101] ،والآيات بمثل ذلك كثيرة .
وقد قدّمنا أن هذا الطبع والختم على القلوب ،وكذلك الأغلال في الأعناق ،والسدّ من بين أيديهم ومن خلفهم ،أن جميع تلك الموانع المانعة من الإيمان ،ووصول الخير إلى القلوب أن اللَّه إنما جعلها عليهم بسبب مسارعتهم لتكذيب الرسل ،والتمادي على الكفر ،فعاقبهم اللَّه على ذلك ،بطمس البصائر والختم على القلوب والطبع عليها ،والغشاوة على الأبصار ؛لأن من شؤم السيئات أن اللَّه جلَّ وعلا يعاقب صاحبها عليها بتماديه على الشرّ ،والحيلولة بينه وبين الخير جزاه اللَّه بذلك على كفره جزاء وفّاقًا .
والآيات الدالَّة على ذلك كثيرة ؛كقوله تعالى:{بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} [ النساء: 155] ،فالباء سببيّة .وفي الآية تصريح منه تعالى أن سبب ذلك الطبع على قلوبهم هو كفرهم ؛وكقوله تعالى:{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [ المنافقون: 3] ،ومعلوم أن الفاء من حروف التعليل ،أي: فطبع على قلوبهم بسبب كفرهم ذلك ،وقوله تعالى:{فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [ الصف: 5] ،وقوله تعالى:{وَنُقَلّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ في طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [ الأنعام: 110] ،وقوله تعالى:{في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} ،إلى غير ذلك من الآيات ،كما تقدّم إيضاحه .
وقد دلَّت هذه الآيات على أن شؤم السيئات يجرّ صاحبه إلى التمادي في السيّئات ،ويفهم من مفهوم مخالفة ذلك ،أن فعل الخير يؤدّي إلى التمادي في فعل الخير ،وهو كذلك كما قال تعالى:{وَالَّذِينَ اهْتَدَوْاْ زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ}[ محمد: 17] ،وقوله تعالى:{وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}[ العنكبوت: 69] ،وقوله تعالى:{وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [ التغابن: 11] ،إلى غير ذلك من الآيات .
واعلم أن قول من قال من أهل العلم: إن معنى قوله تعالى في هذه الآية الكريمة:{إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أَغْلَالاً} ،أن المراد بذلك الأغلال التي يعذّبون بها في الآخرة ؛كقوله تعالى:{إِذِ الأغْلَالُ في أَعْنَاقِهِمْ والسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * في الْحَمِيمِ ثُمَّ في النَّارِ يُسْجَرُونَ} [ غافر: 71-72] ،خلاف التحقيق ،بل المراد بجعل الأغلال في أعناقهم ،وما ذكر معه في الآية هو صرفهم عن الإيمان والهدى في دار الدنيا ؛كما أوضحنا .وقرأ هذا الحرف: حمزة ،والكسائي ،وحفص ،عن عاصم:{سَدّا} ،بالفتح في الموضعين ،وقرأه الباقون بضمّ السين ،ومعناهما واحد على الصواب ،والعلم عند اللَّه تعالى .