قوله تعالى:{قَالَ فِرْعَوْنُ مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أَرَى وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} .
الظاهر أن أرى في هذه الآية الكريمة علمية ،عرفانية ،تتعدى لمفعول واحد ،كما أشار له في الخلاصة بقوله:
لعلم عرفان وظَنِّ تهمه *** تعديةٌ لواحد ملتزمهْ
وعليه فالمعنى: قال فرعون ما أعلمكم وأعرفكم ،من حقيقة موسى وأنه ينبغي أن يقتل ،خوف أن يبدل دينكم ،ويظهر الفساد في أرضكم ،إلا ما أرى أي أعلم وأعرف أنه الحق والصواب فما أخفى عنكم خلاف ما أظهره لكم ،وما أهديكم بهذا إلا سبيل الرشاد ،أي طريق السداد والصواب .
وهذان الأمران اللذان ذكر تعالى عن فرعون أنه قالهما في هذه الآية الكريمة ،قد بين في آيات أخر أن فرعون كاذب في كل واحد منهما .
أما الأول منهما وهو قوله:{مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أَرَى} فقد بين تعالى كذبه فيه في آيات من كتابه وأوضح فيها أنه يعلم ويتيقن أن الآيات التي جاءه بها موسى حق ،وأنها ما أنزلها إلا الله ،وأنه جحدها هو ومن استيقنها معه من قومه ليستخفوا بها عقول الجهلة منهم كقوله تعالى في سورة النمل{وَأَدْخِلْ يَدَكَ في جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ في تِسْعِ ءَايَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ ءَايَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُواْ هَذا سِحْرٌ مُّبِينٌ وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [ النمل: 12 -14] .
فقوله تعالى: في هذه الآية{وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} دليل واضح على أن فرعون كاذب في قوله:{مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى} .
وكقوله تعالى في سورة بني إسرائيل:{قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هؤلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ والأرض بَصَآئِرَ وإني لأَظُنُّكَ يا فِرْعَونُ مَثْبُورًا} [ الإسراء: 102] فقول نبي الله موسى لفرعون{لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هؤلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ والأرض} مؤكداً إخباره بأن فرعون عالم بذلك بالقسم ،وقد دل أيضاً على أنه كاذب في قوله: ما أريكم إلا ما أرى .
وكان غرض فرعون بهذا الكذب ،التدليس والتمويه ليظن جهلة قومه ،أن معه الحق ،كما أشار تعالى إلى ذلك في قوله:{فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ} [ الزخرف: 54] .
وأما الأمر الثاني وهو قوله:{وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ} فقد بين تعالى كذبه فيه في آيات من كتابه كقوله تعالى:{فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [ هود: 97] .وقوله تعالى:{وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} [ طه: 79] .
وقال بعض العلماء في قوله:{مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أَرَى} .
أي ما أشير عليكم إلا بما أرى لنفسي ،من قتل موسى .والعلم عند الله تعالى