قوله تعالى:{مَا يُجَادِلُ في ءَايَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ} .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة ،أنه لا يجادل في آيات الله ،أي لا يخاصم فيها محاولاً ردها ،وإبطال ما جاء فيها ،إلا الكفار .
وقد بين تعالى في غير هذا الموضع الغرض الحامل لهم على الجدال فيها مع بعض صفاتهم ،وذلك في قوله{وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُواْ ءايَاتِى وَمَا أُنْذِرُواْ هُزُواً} [ الكهف: 56] وأوضح ذلك الغرض ،في هذه السورة الكريمة ،في قوله{وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ الْحَقَّ} [ غافر: 5] .
وقد قدمنا في سورة الحج أن الذين يجادلون في الله منهم ،أتباع يتبعون رؤساءهم المضلين ،من شياطين الإنس والجن ،وهم المذكورون في قوله تعالى{وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ في اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} [ الحج: 3-4] .
وإن منهم قادة هم رؤساؤهم المتبوعون وهم المذكورون في قوله تعالى:{ومِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ في اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِير ثاني عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [ الحج: 8-9] الآية .
وبين تعالى في موضع آخر أن من أنواع جدال الكفار ،جدالهم للمؤمنين الذين استجابوا لله وآمنوا به وبرسوله ،ليردوهم إلى الكفر بعد الإيمان ،وبين بطلان حجة هؤلاء ،وتوعدهم بغضبه عليهم ،وعذابه الشديد وذلك في قوله تعالى:{وَالَّذِينَ يُحَآجُّونَ في اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسَتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [ الشورى: 16] .
قوله تعالى:{فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ في الْبِلاَدِ} .
نهى الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة ،ليشرع لأمته عن أن يغره تقلب الذين كفروا في بلاد الله ،بالتجارات والأرباح ،والعافية وسعة الرزق ،كما كانت قريش تفيض عليها الأموال من أرباح التجارات ،وغيرها من رحلة الشتاء والصيف المذكورة في قوله تعالى:{إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَآءِ وَالصَّيْفِ} [ قريش: 2] أي إلى اليمن والشام وهم مع ذلك كفرة فجرة ،يكذبون نبي الله ويعادونه .
والمعنى: لا تغتر بإنعام الله عليهم تقلبهم في بلاده ،في إنعام وعافية فإن الله جل وعلا يستدرجهم بذلك الإنعام ،فيمتعهم به قليلاً ،ثم يهلكهم فيجعل مصيرهم إلى النار .
وقد أوضح هذا المعنى في آيات من كتابه كقوله تعالى:{لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ في الْبِلَادِ مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [ آل عمران: 196-197] .وقوله تعالى:{وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [ لقمان: 23-24] وقوله تعالى:{قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [ البقرة: 126] وقوله تعالى{قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ مَتَاعٌ في الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} [ يونس: 69-70] إلى غير ذلك من الآيات .
والفاء في قوله: فلا يغررك ،سببية أي لا يمكن تقلبهم في بلاد الله .متنعمين بالأموال والأرزاق ،سبباً لاغترارك بهم ،فتظن بهم ظناً حسناً لأن ذلك التنعم ،تنعم استدراج ،وهو زائل عن قريب ،وهم صائرون إلى الهلاك والعذاب الدائم .