قوله تعالى:{لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَآئِزُونَ} .
دلت هذه الآية الكريمة على عدم استواء الفريقين: أصحاب النار وأصحاب الجنة .وهذا أمر معلوم بداهة ،ولكن جاء التنبية عليه لشدة غفلة الناس عنه ،ولظهور أعمال منهم تغاير هذه القضية البديهية ،كمن يسيء إلى أبيه فتقول له: إنه أبوك ،قاله بعض المفسرين .
وهذا في أسلوب البيان يراد به لازم الخبر .أي يلزم من ذلك التنبيه أن يعملوا ما يبعدهم عن النار ويجعلهم من أصحاب الجنة ،لينالوا الفوز .
وهذا البيان قد جاءت نظائره عديدة في القرآن كقوله تعالى:{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ ص: 28] .
وكقوله:{أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ} [ السجدة: 18] أي في الحكم عند الله ،ولا في الواقع في الحياة أو في الآخرة ،كما قال تعالى:{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُواْ السَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} [ الجاثية: 21] ،وهنا كذلك{لاَ يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [ الحشر: 20] في المرتبة والمنزلة والمصير .
قال أبو حيان: هذا بيان مقابلة الفريقين أصحاب النار في الجحيم ،وأصحاب الجنة في النعيم ،والآية عند جمهور المفسرين في بيان المقارنة بين الفريقين ،وهو ظاهر السياق بدليل ما فيها من قوله:{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَآئِزُونَ} ،فهذا حكم على أحد الفريقين بالفوز ،ومفهومه الحكم على الفريق الثاني بالهلاك والخسران ،ويشهد له أيضاً ما قبلها{وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ} [ الحشر: 19] أي من هذا الفريق فأنساهم أنفسهم ،فصاروا أصحاب النار على ما سيأتي بيانه إن شاء الله .
وهنا احتمال آخر ،وهو لا يستوي أصحاب النار في النار ولا أصحاب الجنة في الجنة ،فيما هم فيه من منازل متفاوتة كما أشار إليه أبو حيان عند قوله تعالى:{وَلاَ تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلاَ السَّيِّئَةُ} [ فصلت: 34] ،ولكن عدم وجود اللام هنا يجعله أضعف احتمالاً ،وإلا لقال: لا يستوي أصحاب النار ،ولا أصحاب الجنة ،وهذا المعنى ،وإن كان واقعاً لتفاوت درجات أهل الجنة في الجنة ،ومنازل أهل النار في النار ،إلا أن احتماله هنا غير وارد ،لأن آخر الآية حكم على مجموع أحد الفريقين ،وهم أصحاب الجنة أي في مجموعهم كأنه في مثابة القول: النار والجنة لا يستويان ،فأصحابهما كذلك .
وقد نبه أبو السعود على تقديم أصحاب النار ،في الذكر على أصحاب الجنة بأنه ليبين لأول وهلة أن النقص جاء من جهتهم كما في قوله:{هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ} [ الرعد: 16]
ا ه .
وبيان ذلك أن الفرق بين المتفاوتين في الزيادة والنقص ،يمكن اعتبار التفاوت بالنسبة إلى النقص في الناقص ،ويمكن اعتباره بالنسبة إلى الزيادة في الزائد .
فقدم الجانب الناقص ليبين أن التفاوت الذي حصل بينهما ،إنما هو بسبب النقص الذي جاء منهما لا بسبب الزيادة في الفريق الثاني ،والنتيجة في ذلك عدم إمكان جانب النقص الاحتجاج على جانب الزيادة ،وفيه زيادة تأنيب لجانب النقص ،وفي الآية إجمال أصحاب النار وأصحاب الجنة .
ومعلوم أن كلمة أصحاب تدل على الاختصاص ،فكأنه قال: أهل النار وأهل الجنة المختصون بهما .
وقد دل القرآن أن أصحاب النار هم الكفار كما قال تعالى{وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ} [ البقرة: 39] .
والخلود لا خروج معه كما في قوله تعالى{وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ} إلى قوله{وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} وكقوله في سورة الهمزة{يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ كَلاَّ لَيُنبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأفئدة إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ} [ الهمزة: 3 -8] أي: مغلقة عليهم .
أما أصحاب الجنة فهم المؤمنون كقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ قَالُواْ رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُواْ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [ الأحقاف: 13 -14] وقد جمع القسمين في قوله تعالى{بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئتُهُ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [ البقرة: 81 -82] .
كما جاء مثل هذا السياق كاملاً متطابقاً فيفسر بعضه بعضاً كما قدمنا ،وذلك في سورة التوبة قال تعالى{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِي حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} [ التوبة: 67 – 68] .
فهذه أقسام الكفر والنفاق ،وأخص أصحاب النار والاختصاص من الخلود فيها ولعنهم وهي حسبهم ،وهم الذين نسوا الله فنسيهم ،وهم عين من ذكر في هذه السورة سورة الحشر ،ثم جاء مقابلة تماماً في نفس السياق في قوله تعالى:{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذالِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [ التوبة: 71-72] .
وهذه أيضاً أخص صفات أهل الجنة ،من الرحمة والرضوان ،والخلود ،والإقامة الدائمة في جنات عدن ،إذ العدن الإقامة الدائمة ،ومنها المعدن لدوام إقامته في مكانه ،ورضوان من الله أكبر .
ثم يأتي الختام في المقامين متحداً ،وهو الحكم بالفوز لأصحاب الجنة ،ففي آية التوبة{ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [ التوبة: 72] وفي آية الحشر{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَآئِزُونَ} ،وبهذا علم من هم أصحاب النار ،ومن هم أصحاب الجنة .
وتبين ارتباط هذه المقابلة بين هذين الفريقين ،وبين ما قبلهم ممن نسوا فأنساهم أنفسهم ،ومن اتقوا الله وقدموا لغدهم ،وبهذا يعلم أن عصاة المسلمين غير داخلين هنا في أصحاب النار ،لما قدمنا من أن أصحاب النار هم المختصون بها ممن كفروا بالله وكذبوا بآياته ،وكما يشهد لهذا قوله تعالى{وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً ثُمَّ نُنَجِّى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [ مريم: 71 -72] ،والظالمون هنا هم المشركون في ظلمهم أنفسهم .
وبهذا يرد على المعتزلة أخذهم من هذه الآية عدم دخول أصحاب الكبيرة الجنَّة على أنهم في زعمهم لو دخلوها لاستووا مع أصحاب الجنة .
وهذا باطل كما قدمنا ،ومن ناحية أخرى يرد بها عليهم ،وهي أن يقال: إذا خلد العصاة في النار على زعمكم مع ما كان منهم من إيمان بالله وعمل صالح فماذا يكون الفرق بينهم وبين الكفار والمشركين ،وتقدم قوله تعالى:{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ} [ ص: 28] .
وقد بحث الشيخ رحمة الله تعالى عليه ،مسألة بقاء العصاة وخروجهم من النار وخلود الكفار فيها بحثاً واسعاً في دفع إيهام الاضطراب في سورة الأنعام فليرجع إليه .
وقد استدل الشافعي رحمه الله ،بهذه الآية أن المسلم لا يقتل بالذمي ولا بكافر لأنهما لا يستويان ،وأن الكفار لا يملكون أموال المسلمين بالقهر .ذكره الزمخشري .
وهذا وإن كان حقاً إلا أن أخذه من هذه الآية فيه نظر ،لأنها في معرض المقارنة للنهاية يوم القيامة .
/خ24