وقوله تعالى:{وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} .
بعد الحث على تقوى الله وعلى الاجتهاد في تقديم العمل الصالح ليوم غد جاء التحذير في هذه الآية من النسيان والترك وألا يكون كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم ،ولم يبين هنا من هم الذين حذر من أن يكونوا مثلهم في هذه النسيان ،وما هو النسيان والإنساء المذكوران هنا .
وقد نص القرآن على أن الذين نسوا الله هم المنافقون في قوله تعالى في سورة التوبة:{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[ التوبة: 67] وهذا عين الوصف الذي وصفوا به في سورة الحشر .وقوله تعالى:{فَنَسِيَهُمْ} أي أنساهم أنفسهم ،لأن الله تعالى لا ينسى{لاَّ يَضِلُّ رَبِّى وَلاَ يَنسَى} [ طه: 52] ،{وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً}[ مريم: 64] .
وقد جاء أيضاً: وصف كل من اليهود والنصارى والمشركين بالنسيان في الجملة ،ففي اليهود يقول تعالى:{فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظَّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ}[ المائدة: 13] .
وفي النصارى يقول تعالى:{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ}[ المائدة: 14] .
وفي المشركين يقول تعالى:{الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُواْ بآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [ الأعراف: 51] ،فيكون التحذير منصباً أصالة على المنافقين وشاملاً معهم كل تلك الطوائف لاشتراكهم جميعاً في أصل النسيان .
أما النسيان هنا ،فهو بمعنى الترك ،وقد نص عليه الشيخ رحمة الله تعالى عليه عند الكلام على قوله تعالى:{وَلَقَدْ عَهِدْنَآ إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ} [ طه: 115] .
فذكر وجهين ،وقال: العرب تطلق النسيان وتريد به الترك ولو عمداً ،ومنه قوله تعالى:{قَالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذالِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [ طه: 126] .
فالمراد من هذه الآية الترك قصداً .
وكقوله:{فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُواْ بآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [ الأعراف: 51] .
وقوله:{فَذُوقوا بِما نَسِيتُمْ لِقآء يَوْمِكُمْ هَذا إِنَّا نَسِينَاكُمْ} [ السجدة: 14]
وقوله:{وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ نَسُواْ اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} الآية.انتهى .
أما النسيان الذي هو ضد الذكر ،وهو الترك عن غير قصد ،فليس داخلاً هنا ،لأن هذه الأمة قد أعفيت من المؤاخذة عليه ،كما في قوله تعالى:{رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا} [ البقرة: 286].وفي الحديث أن الله تعالى قال:"قد فعلت قد فعلت"أي عند ما تلاهاصلى الله عليه وسلم.وجاء في السنة"إن الله قد تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه".
وقد بين الشيخ رحمة الله تعالى عليه هذا النوع في دفع إيهام الاضطراب على الجواب عن الإشكال الموجود في نسيان آدم ،هل كان عن قصد أو عن غير قصد ،وإذا كان عن غير قصد ،فكيف يؤاخذ ؟.وبين خصائص هذه الأمة في هذا الباب رحمة الله تعالى عليه ،فليرجع إليه .
وإذا تبين المراد بالتحذير من مشابهتهم في النسيان ،وتبين معنى النسيان ،فكيف أنساهم الله أنفسهم ؟وهذه مقتطفات من أقوال المفسرين في هذا المقام لزيادة البيان:
قال ابن كثير رحمه الله: لا تنسوا ذكر الله تعالى فينسيكم العمل الصالح ،فإن الجزاء من جنس العمل .
وقال القرطبي:{نسوا الله} أي تركوا أمره ،{فأنساهم أنفسهم} أن يعملوا لها خيراً .
وقال أبو حيان: الذين نسوا الله هم الكفار تركوا عبادة الله ،وامتثال ما أمر واجتناب ما نهى فأنساهم أنفسهم حيث لم يسعوا إليها في الخلاص من العذاب ،وهذا من المجازات على الذنب بالذنب .إلخ .
وقال ابن جرير: تركوا أداء حق الله الذي أوجبه عليهم ،وهذا من باب الجزاء من جنس العمل .
أما الزمخشري والفخر الرازي ،فقد أدخلا في هذا المعنى مبحثاً كلامياً حيث قالا في معنى{نَسُواْ اللَّهَ} [ الحشر: 19] كما قال الجمهور ،أما في معنى{فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} [ الحشر: 19] فذكرا وجهين .الأول: كالجمهور ،والثاني: بمعنى ،أراهم يوم القيامة من الأهوال ما نسوا فيه أنفسهم كقوله تعالى:{لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ} [ إبراهيم: 43] ،وقوله:{وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [ الحج: 2] ا ه .
وهذا الوجه الثاني لا يسلم لهما ،لأن ما ذهبا إليه عام في جميع الخلائق يوم القيامة ،وليس خاصاً بمن نسي الله كما قال تعالى في نفس الآية التي استدلا بها{وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} ،فهو عام في جميع الناس .
وقوله:{يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ} [ الحج: 2] .والذهول أخو النسيان ،وهو هنا عام في كل مرضعة{وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} [ الحج: 2] وهو أيضاً عام ،وذلك من شدة الهول يوم القيامة ،ولعل الحامل لهما على إيراد هذا الوجه مع بيان ضعفه ،هو فرارهم من نسبة الإنساء إلى الله ،وفيه شبهة اعتزال كما لا يخفى .
ولوجود إسناد الإنساء إلى الشيطان في بعض المواضع كما في قصة صاحب موسى:{وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [ الكهف: 63] ،وكما في قوله تعالى:{وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [ الأنعام: 68] ،وقوله: عن صاحب يوسف:{فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ} [ يوسف: 42] .
ولكن الصحيح عند علماء السلف أن حقيقة النسيان والإنساء والتذكير والتذكر كحقيقة أي معنى من المعاني ،وأنها كلها من الله{قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ} [ النساء: 78] ،{قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [ التوبة: 51] فما نسب إلى الشيطان فهو بتسليط من الله كما في قوله تعالى:{فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ} ،ثم قال:{وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ} [ البقرة: 102] فيكون إسناد الإنساء إلى الشيطان من باب قول الخليل عليه السلام{وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [ الشعراء: 80] تأدباً في الخطاب مع الله تعالى ،ولكن هذا المقام مقام إخبار من الله عما أوقعه بهؤلاء الذين نسوا ما أمرهم به فأنساهم ،فأوقع عليهم النسيان لأنفسهم مجازاة لهم على أعمالهم ،فكان نسبته إلى الله وبإخبار من الله عين الحق وهو أقوى من أسلوب المقابلة:{نسوا الله فنسيهم} .
تنبيهان:
الأول: جاء في مثل هذا السياق سواء بسواء قوله تعالى:{وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [ الحاثية: 34] .
وقوله:{فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذَآ إِنَّا نَسِينَاكُمْ} [ السجدة: 14] .
وقوله:{نَسُواْ اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [ التوبة: 67] ،وفي هذا نسبة النسيان إلى الله تعالى فوقع الإشكال مع قوله تعالى:{وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} [ مريم: 64] وقوله:{لاَّ يَضِلُّ رَبّي وَلاَ يَنسَى} [ طه: 52] .
وقد أجاب الشيخ رحمة الله عليه عن ذلك في دفع إيهام الاضطراب ،بأن النسيان المثبت بمعنى الترك كما تقدم ،والمنفي عنه تعالى: هو الذي بمعنى السهو ،لأنه محال على الله تعالى .
التنبيه الثاني:
مما نص عليه الشيخ رحمة الله تعالى عليه في مقدمة الأضواء ،أن من أنواع البيان أن يوجد في الآية اختلاف للعلماء وتوجد فيها قرينة دالة على المعنى المراد ،وهو موجود هنا في هذه المسألة وهو قوله تعالى:{وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [ الجاثية: 34] وهذا القول يكون يوم القيامة ،وقد عبر عن النسيان بصيغة المضارع وهي للحال أو الاستقبال ،ولا يكون النسيان المخبر عنه في الحال إلا عن قصد وإرادة ،وكذلك لا يخبر عن نسيان سيكون في المستقبل إلا عن قصد وإرادة ،وهذا في النسيان بمعنى الترك عن قصد ،أما الذي بمعنى السهو فيكون بدون قصد ولا إرادة ،فلا يصح التعبير عنه بصيغة المضارع ولا الإخبار بإيقاعه عليهم في المستقبل ،فصح أن كل نسيان نسب إلى الله فهو بمعنى الترك ،وكان قوله تعالى:{فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ} [ الحشر: 19] مفسراً ومبيناً لمعنى{الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ} [ السجدة: 14] ولقوله{إِنَّا نَسِينَاكُمْ} والعلم عند الله تعالى .