وأكّدت الآية اللاحقة بعد الأمر بالتقوى والتوجّه إلى يوم القيامة على ذكر الله سبحانه ،حيث يقول تعالى:{ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم} .
وأساساً فإنّ جوهر التقوى شيئان: ذكر الله تعالى ،وذلك بالتوجّه والإنشاد إليه من خلال المراقبة الدائمة منه واستشعار حضوره في كلّ مكان وفي كلّ الأحوال ،والخشية من محكمة عدله ودقّة حسابه الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها في صحيفة أعمالنا ..ولذا فإنّ التوجّه إلى هذين الأساسين ( المبدأ والمعاد ) كان على رأس البرامج التربوية للأنبياء والأولياء ،وذلك لتأثيرها العميق في تطهير الفرد والمجتمع .
والنقطة الجديرة بالملاحظة أنّ القرآن الكريم يعلن هنابصراحةأنّ الغفلة عن الله تسبّب الغفلة عن الذات ،ودليل ذلك واضح أيضاً ،لأنّ نسيان الله يؤدّي من جهة إلى انغماس الإنسان في اللذات المادية والشهوات الحيوانية ،وينسى خالقه ،وبالتالي يغفل عن ادخار ما ينبغي له في يوم القيامة .
ومن جهة أخرى فانّ نسيان الله ونسيان صفاته المقدّسة وأنّه سبحانه هو الوجود المطلق والعالم اللامتناهي ،والغنى اللامحدود ..وكلّ ما سواه مرتبط به ،ومحتاج لذاته المقدّسة ..كلّ ذلك يسبّب أن يتصوّر نفسه مستقلا ومستغنياً عن المبدأ{[5213]} .
وأساساً فإنّ النسيانبحدّ ذاتهمن أكبر مظاهر تعاسة الإنسان وشقائه ،لأنّ قيمة الإنسان في قابلياته ولياقاته الذاتية وطبيعة خلقه التي تميّزه عن الكثير من المخلوقات ،وإذا نسيها فهذا يعني نسيان إنسانيته ،وفي مثل هذه الحالة يسقط الإنسان في وحل الحيوانية ،ويصبح همّه الأكل والشرب والنوم والشهوات .
وهذه كلّها عامل أساس للفسق والفجور ،بل إنّ نسيان الذات هو من أسوأ مصاديق الفسق والخروج عن طاعة الله ،ولهذا يقول سبحانه:{أولئك هم الفاسقون} .
وممّا يجدر بيانه أنّ الآية لم تقل «لا تنسوا الله » ،بل وردت بعبارة{ولا تكونوا كالذين نسوا الله} أي كالأشخاص الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم ،وهي في الحقيقة بيان مصداق حسّي وواضح يمكن للإنسان أن يرى فيه عاقبة نسيان الله تعالى .
والظاهر أنّ المقصود في هذه الآية هم المنافقون والذين أشير لهم في الآيات السابقة ،أو أنّ الملاحظ فيها هم يهود بني النضير ،أو كلاهما .
وجاء نظير هذا المعنى في قوله تعالى:{المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف ويقبضون أيديهم نسوا الله فنسيهم إنّ المنافقين هم الفاسقون}{[5214]} .
ومع وجود قدر من التفاوت بين الآيتين ،أنّه ذكر نسيان الله هناك كسبب لقطع رحمة الله عن الإنسان ،وفي هذه الآية محل البحث سبب لنسيان الذات .وبالتالي فإنّ الآيتين تنتهيان إلى نقطة واحدة .«فلاحظ »
/خ20