قوله تعالى:{آَمِنتُمْ مَّن فِى السَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} .
ذكر أبو حيان في قراءة{آمِنتُمْ} عدة قراءات من تحقيق الهمزتين ،ومن تسهيل الثانية ومن إدخال ألف بينهما وغير ذلك ،والخسف ذهابها سفلاً ،كما خسف بقارون ،والمور الحركة المضطربة أو الحركة بسرعة ،وقد ثبتها تعالى بالجبال أوتاداً كما قال:{وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعاً لَّكُمْ} [ النازعات: 32 -33] ،و من في السماء .قال ابن جرير: هو الله تعالى ا ه .
وعزاه القرطبي لابن عباس ،ويشهد لما قاله: ما جاء بعده من خسف الأرض وإرسال الحاصب ،فإنه لا يقدر عليه إلا الله ،كما أنه ظاهر النص ،وبهذا يرد على الكسائي فيما ذهب إليه ومن تبعه عليه كأبي حيان ،إذ قالوا: إنه على تقدير محذوف من قبيل المجاز ،ومجازه عندهم أن ملكوته في السماء ،أي على حذف مضاف ،وملكوته في كل شيء ،ولكن خص السماء بالذكر ،لأنها مسكن ملائكته ،وثم عزته وكرسيه واللوح المحفوظ .ومنها تتنزل قضاياه وكتبه وأوامره ونهيه .إلخ .
وقيل: هو جبريل ،لأنه الموكل بالخسف ،وقيل: إنه مجاراة لهم في معتقدهم بأن الله في السماء .وهذه الأقوال مبناها على نفي صفة العلو لله تعالى ،وفراراً من التشبيه في نظرهم ،ولكن ما عليه السلف خلاف ما ذهبوا إليه ،ومعتقد السلف هو طبق ما قاله ابن جرير لحديث الجارية:"أين الله ؟قالت في السماء ،قال: اعتقها فإنها مؤمنة"ولعدة آيات في هذا المعنى .
وقد بحث الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه هذا المبحث بأوسع وأوضح ما يمكن ،مما لم يدع لبساً ولا يترك شبهة ،ولا يستغني عنه مسلم عالماً كان أو متعلماً ،فالعالم يأخذ منه منهج التعليم السليم ،وأسلوب البيان الحكيم ،والمتعلم يأخذ منه ما يجب عليه من معتقد قويم واضح جلي سليم .
وقد يقال: إن معنى فيهو الظرفية ،فنجعل السماء ظرفاً لله تعالى ،وهذا يقتضي التشبيه بالمتحيز .
فيقال: إنه سبحانه منزه عن الظرفية بالمعنى المعروف والمنصوص في حق المخلوق .
وقد دلت النصوص من السنة على نفي ذلك عنه تعالى ،واستحالته عقلاً عليه سبحانه في حديث:"ما السماوات السبع في الكرسي إلا كحلقة أو دراهم في ترس ،وما الكرسي في العرش إلا كحلقة في فلاة ،وما العرش في كف الرحمن إلا كحبة خردل في كف أحدكم"فانتفت ظرفية السماء له سبحانه على المعروف لنا ،ولأنه سبحانه مستو على عرشه .
وفيما قدمه الشيخ رحمة الله تعالى علينا وعليه في هذا المبحث شفاء وغناء ،ولله الحمد والمنة .قال القرطبي: إن في السماء بمعنى فوق السماء كقوله:{فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ} أي فوقها لا بالمماسة والتحيز .وقيل: في بمعنى على كقوله:{وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} أي عليها ،إلى أن قال: والأخبار في هذا الباب كثيرة صحيحة ،منتشرة مشيرة إلى العلو ،لا يدفعها إلا ملحد أو جاهل أو معاند ،والمراد بها توقيره وتنزيهه عن السفل والتحت ،ووصفه بالعلوا ه .
وهذا الذي ذكره هو عين مذهب السلف ،وقد ذكر كلاماً آخر فيه التأويل وفيه التنزيه .