قوله تعالى:{وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} .
وهذا لا يستوجب التفرق في أمره صلى الله عليه وسلم .
ولكن هنا لم يبين موضع الأمر عليهم بعبادة الله مخلصين له الدين ،هل هو في كتبهم السابقة ،أم في هذا القرآن الذي يتلى عليهم في صحف مطهرة ؟
وقد بين القرآن العظيم أن هذا الأمر موجود في كل من كتبهم والقرآن الكريم ،فما في كتبهم قوله تعالى:{وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ} .
وقوله:{شَرَعَ لَكُم مِّنَ الِدِينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُواْ الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ} .
فإقامة الدين وعدم التفرقة فيه ،هو عين عبادة الله مخلصين له الدين .
ومما في القرآن قوله تعالى:{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّاي فَارْهَبُونِ 40 وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ وَلاَ تَكُونُواْ أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ 41 وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ 42 وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ} .
فقد نص على كامل المسألة هنا أن الكتب القيمة المنصوص عليها في الصحف المطهرة هي كتب أهل الكتاب ،لقوله تعالى:{وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقًا لِّمَا مَعَكُمْ} ،وأنهم أمروا في هذا القرآن بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة مع التعليمات المذكورة نفسها ،وإقام الصلاة لا يكون إلا عبادة الله بإخلاص .
وهذه الأوامر سواء كانت في كتبهم أو في القرآن لا تقتضي التفرق ،بل تستوجب الاجتماع والوحدة .قوله تعالى:{وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ} .
القيمة: فيعلة من القوامة ،وهي غاية الاستقامة .
وقد جاء بعد قوله:{فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ 3} ،أي مستقيمة بتعاليمها .
وقد نص تعالى على أن القرآن أقومها وأعدلها كما في قوله:{إِنَّ هَذَا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} ،وقال تعالى:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا 1 قَيِّماً} ،فنفى عنه العوج ،وأثبت له الاستقامة .
وهذا غاية في القوامة كما قدمنا من قبل ،من أن المستقيم قد يكون فيه انحناء كالطريق المعبد المستقيم عن المرتفعات والمنخفضات ،لكنه ينحرف تارة يميناً وشمالاً مع استقامته ،فهو مع الاستقامة لم يخل من العوج .
ولكن ما ينتفي عنه العوج وتثبت له الاستقامة ،هو الطريق الذي يمتد في اتجاه واحد بدون أي اعوجاج إلى أي الجانبين ،مع استقامته في سطحه .
وهكذا هو القرآن ،فهو الصراط المستقيم ،ولذا قال تعالى:{وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ} الملة القيمة ،قيمة في ذاتها ،وقيمة على غيرها: ومهيمنة عليه ،وكقوله:{ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} ،وقوله:{قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ 161 قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .
تنبيه
إن في هذه الآية رداً صريحاً على أولئك الذين ينادون بدون علم إلى دعوة لا تخلو من تشكيك ،حيث لم تسلم من لبس ،وهي دعوة وحدة الأديان ،ومحل اللبس فيها أن هذا القول منه حق ،ومنه باطل .
أما الحق فهو وحدة الأصول ،كما قال تعالى:{وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُواْ الزَّكَاةَ} ،وأما الباطل فهو الإبهام ،بأن هذا ينجر على الفروع مع الجزم عند الجميع ،بأن فروع كل دين قد لا تتفق كلها مع فروع الدين الآخر ،فلم تتحد الصلاة في جميع الأديان ولا الصيام ،ونحو ذلك .
وقد أجمع المسلمون على أن العبرة بما في القرآن من تفصيل للفروع والسنة ،تكمل تفصيل ما أجمل .
وهنا النص الصريح بأن ذلك الذي جاء به القرآن هو دين القيمة ،وأن القرآن يهدي للتي هي أقوم ،وهي أفعل تفضيل ،فلا يمكن أن يعادل ويساوي مع غيره أبداً مع نصوص القرآن ،بأن الله أخذ العهد على جميع الأنبياء لئن أدركوا محمداً صلى الله عليه وسلم ليؤمنن به ،ولينصرنه وليتبعنه ،وأخذ عليهم العهد بذلك .وقد أخبر الرسل أممهم بذلك .فلم يبق مجال في هذا الوقت ولا غيره لدعوة الجاهلية بعنوان مجوف وحدة الأديان ،بل الدين الإسلامي وحده{إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ} ،{وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} ،وباللَّه تعالى التوفيق .