جملة{ كتب عليه أنه من تولاه} إلى آخرها صفة ثانية ل{ شيطان مريد}[ الحج: 3] ،فالضمير المجرور عائد إلى{ شيطان .وكذلك الضمائر في أنه من تولاه فأنه} .
وأما الضميران البارزان في قوله{ يضله ويهديه إلى عذاب السعير} فعائدان إلى ( مَن ) الموصولة ،أي يضل الشيطان مُتَوَليه عن الحق ويهدي متوليه إلى عذاب السعير .
واتفقت القراءات العشر على قراءة{ كُتب} بضم الكاف على أنه مبني للنائب .واتفقت أيضاً على فتح الهمزتين من قوله تعالى:{ أنه من تولاه فأنه يضله} .
والكتابة مستعارة للثبوت واللزوم ،أي لزمه إضلال متوليه ودلالته على عذاب السعير ،فأطلق على لزوم ذلك فعل{ كتب عليه} أي وجب عليه ،فقد شاع أن العقد إذا أريد تحقيق العمل به وعدم الإخلال به كتب في صحيفة .قال الحارث بن حِلّزة:
وهل يَنْقُضُ ما في المهارق الأهْوَاءُ
والضمير في{ أنه} عائد إلى{ شيطان}[ الحج: 3] وليس ضمير شأن لأن جعله ضمير شأن لا يناسب كون الجملة في موقع نائب فاعل{ كُتب ،} إذ هي حينئذ في تأويل مصدر وضمير الشأن يتطلب بعده جملة ،والمصدران المنسبكان من قوله{ أنه من تولاه} وقوله{ فأنه يضله} نائب فعل{ كتب} ومفرع عليه بفاء الجَزاء ،أي كتب عليه إضلال من تولاه .والتولي: اتّخاذ ولي ،أي نصير ،أي من استنصر به .
و ( مَن ) موصولة وليست شرطية لأن المعنى على الإخبار الثابِت لا على التعليق بالشرط .وهي مبتدأ ثان ،والضمير المستتر في قوله{ تولاه} عائد إلى ( مَن ) الموصولة .والضمير المنصوب البارز عائد إلى{ شيطان}[ الحج: 3] ،أي أن الذي يتخذ الشيطان ولياً فذلك الشيطان يضله .
والفاء في قوله{ فأنه يضله} داخلة على الجملة الواقعة خبراً عن ( من ) الموصولة تشبيهاً لجملة الخبر عن الموصول بجملة الجزاء لشَبَه الموصول بالشرط قصداً لتقوية الإخبار .والمصدر المنسبك من قوله{ فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير} في تقدير مبتدأ هو صدر للجملة الواقعة خبراً عن ( مَن ) الموصولة .والتقدير: فإضلاله إياه ودلالته إياه إلى عذاب السعير .وخبر هذا المبتدأ مقدر لأنه حاصل من معنى إسناد فعلَي الإضلال والهداية إلى ضمير المبتدأ .والتقدير: ثابتان .
ويجوز أن تجعل الفاء في قوله{ فأنه يضله} فاء تفريع ويجعلَ ما بعدها معطوفاً على{ من تولاه} ويكون المعطوف هو المقصود من الإخبار كما هو مقتضى التفريع .والتقدير: كتب عليه ترتب الإضلال منه لمتولّيه وترتب إيصاله متوليَه إلى عذاب السعير .
هذان هما الوجهان في نظم الآية وما عداهما تكلفات .
واعلم أن ما نظمت به الآية هنا لا يجري على نظم قوله تعالى في[ سورة براءة: 63]{ ألم يعلموا أنه من يحادد الله ورسوله فأن له نار جهنم خالداً فيها} لأن مقتضى فعل العلم غيرُ مَقتضى فعل ( كُتب ) .فلذلك كانت ( مَن ) في قوله من يحادِدِ} شرطية لا محالة وكان الكلام جارياً على اعتبار الشرطية وكان الضمير هنالك في قوله{ أنه} ضمير شأن .
ولما كان الضلال مشتهراً في معنى البعد عن الخير والصلاح لم يحتج في هذه الآية إلى ذكر متعلق فعل{ يضله} لظهور المعنى .
وذُكِر متعلق فعل{ يهديه} وهو{ إلى عذاب السعير} لأن تعلقه به غريب إذ الشأن أن يكون الهَدْي إلى ما ينفع لا إلى ما يضر ويعذب .
وفي الجمع بين{ يضله ويهديه} محسن الطِباق بالمضادة .وقد عدّ من هذا الفريق الشامل له قوله تعالى:{ ومن الناس من يجادل في الله بغير علم} النضر بن الحارث .وقيل نزلت فيه ؛كان كثير الجدل يقول: الملائكة بنات الله ،والقرآن أساطير الأولين ،والله غير قادر على إحياء أجساد بليت وصارت تراباً .وعُد منهم أيضاً أبو جهل ،وأبيُّ بن خَلف .ومن قال: إن المقصود بقوله{ من يجادل} معيناً خص الآية به ،ولا وجه للتخصيص وما هو إلا تخصيص بالسبب .