/م21
ثم ضرب الله تعالى مثلا لهؤلاء الناس- هو من أبلغ أمثال القرآن- فقال:{ هُو الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ والْبَحْرِ} السير المضي والانتقال من مكان إلى آخر ، والتسيير جعل الشيء أو الشخص يسير بتسخيره ، أو إعطائه ما يسير عليه من دابة أو مركبة أو سفينة ، أي إن الله تعالى هو الذي يسيركم أيها الناس في البر والبحر بما وهبكم من القدرة على السير ، وما سخر لكم من الإبل والدواب والفلك التي تجري في البحر ( وزادنا في هذا العصر القطارات والسيارات البخارية والطيارات التي تسير في الجواء ) .
{ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ} أي حتى إذا كنتم في إحدى حوادث سيركم البحري راكبين في الفلك التي سخرها لكم ، والفلك بالضم اسم للسفينة المفردة ولجمعها وهو السفن والسفائن ( مفرده وجمعه واحد ) ، والمراد به هنا الجمع إذ قال:{ وجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} أي وجرت هذه الفلك بمن فيها بسبب ريح طيبة ، أي رخاء مواتية لهم في جهة سيرهم ، والطيب من كل شيء ما يوافق الغرض والمنفعة ، يقال:رزق طيب ، ونفس طيبة ، وبلدة طيبة ، وشجرة طيبة .
وفي قوله:{ بهم} التفات عن الخطاب إلى الغيبة ، فائدته -كما قال الزمخشري- المبالغة ، كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها ، ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح لها ، أي لما وصفهم به بعد ذلك من كفر النعمة .
{ وفَرِحُواْ بِهَا} لما يكون لهم في هذه الحالة من الراحة والانتعاش والأمن من دوار البحر ، والتمتع بمنظرها العليل .
{ جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ} أي جاءت الفلك أو الريح الطيبة ، أي لاقتها ريح شديدة قوية .يقال:عصفت الريح فهي عاصف وعاصفة ، أي تعصف الأشياء وتكسرها فتكون كعصف النبات وهو الحطام المتكسرة منه .
{ وجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ} أي واضطرب البحر وتموج سطحه كله ، فتلقاهم موجه من جميع الجوانب والنواحي بتأثير الريح ، فهي أنواع:منها ما يهب من ناحية واحدة كالرياح الأربع ، ومنها النكباء ، وهي المنحرفة التي تقع بين ريحين مختلفتين ، ومنها المتناوحة التي تهب من جميع النواحي ، ومنها الإعصار وهي التي تدور فتكون عمودية فيرتفع بها ما تدور عليه من التراب والحصى من الأرض ، والماء من سطح البحر بما عليه وما فيه من سمك وغيره ، ثم يلقي في مكان آخر .
{ وظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} أي اعتقدوا اعتقادا راجحا أنهم هلكوا بإحاطة الموج من كل جانب ، كما يحيط العدو المحارب بعدوه إذ يطوقه بما يقطع عليه سبل النجاة ، ذلك بأن فعل العاصف يهبط بهم في لجج البحر تارة ، كأنهم سقطوا في هاوية سحيقة ، ولا يلبث أن يثب بهم إلى أعلى غوارب الموج ، كأنهم في قنة جبل شاهق أصابه رجفة زلزلة شديدة .
{ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} هذا جواب لما تضمنه قوله تعالى:{ حتى إذا كنتم في الفلك} الخ ، أي حتى إذا ما نزل بهم كل ذلك من نذر العذاب ، وتقطعت بهم دون النجاة جميع الأسباب ، دعوا الله في كشفه عنهم مخلصين له الدين ، لا يتوجهون معه إلى ولي ولا شفيع ، ولا ند ولا شريك ، ممن كانوا يتوسلون بهم إليه في حال الرخاء عازمين على طاعته قائلين:
{ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} أي نقسم لك يا ربنا لئن أنجيتنا من هذه التهلكة أو العاصفة لنكونن من جماعة المؤمنين الشاكرين لنعمائك لا نكفر منها شيئا ، ولا نشرك بك أحدا ، ولا ندعو من دونك وليا ولا شفيعا ، ولا نتوجه في تفريج كروبنا وقضاء حاجنا إلى وثن ولا صنم ، ولا إلى ولي ولا نبي ولا ملك ، وفي هذه الآية وأمثالها بيان صريح لكون المشركين كانوا لا يدعون في أوقات الشدائد وتقطع الأسباب بهم إلا الله ربهم ، ولكن من لا يحصى عددهم من مسلمي هذا الزمان –بزعمهم- لا يدعون عند أشد الضيق إلا معبوديهم من الميتين كالبدوي والرفاعي والدسوقي والجيلالي والمتبولي وأبي سريع وغيرهم ممن لا يحصى عددهم ، وتجد من حملة العمائم الأزهريين وغيرهم - ولاسيما سدنة المشاهد المعبودة الذين يتمتعون بأوقاتهم ونذورها - من يغريهم بشركهم ، ويتأوله لهم ، بتسميته بغير اسمه في اللغة العربية كالتوسل وغيره .
وقد سمعت من كثير من الناس في مصر وسورية حكاية يتناقلونها -ربما تكررت في القطرين لتشابه أهلهما ، وأكثر مسلمي هذا العصر في خرافتهم- وملخصها أن جماعة ركبوا البحر فهاج بهم حتى أشرفوا على الغرق فصاروا يستغيثون معتقديهم بعضهم بقول:يا سيد يا بدوي ، وبعضهم يصيح:يا رفاعي وآخر يهتف:يا عبد القادر يا جيلاني ...الخ وكان فيهم رجل موحد ضاق بهم ذرعا ، فقال:يا رب أغرق أغرق ، ما بقي أحد يعرفك .
وفي هذا المعنى قال السيد حسن صديق الهندي في الكلام على الآية من تفسيره فتح الرحمن:
"وفي هذا دليل على أن الخلق جبلوا على الرجوع إلى الله في الشدائد ، وأن المضطر يجاب دعاؤه وإن كان كافرا ، وفي هذه الآية بيان أن هؤلاء المشركين كانوا لا يلتفتون إلى أصنامهم في هذه الحالة وما شابهها ، فيا عجبا لما حدث في الإسلام من طوائف يعتقدون في الأموات ، فإذا عرضت لهم في البحر مثل هذه الحالة دعوا الأموات ولم يخلصوا الدعاء لله كما فعله المشركون- كما تواتر ذلك إلينا تواترا يحصل به القطع- فانظر هداك الله ما فعلت هذه الاعتقادات الشيطانية ؟ وأين وصل بها أهلها ؟ وإلى أين رمى بهم الشيطان ؟ وكيف اقتادهم وتسلط عليهم حتى انقادوا له انقيادا ما كان يطمح في مثله ولا في بعضه من عباد الأصنام ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ".
وقال السيد محمود الآلوسي العراقي في تفسيرها من روح المعاني ما نصه:
"أي دعوه تعالى من غير إشراك لرجوعهم من شدة الخوف إلى الفطرة التي جبل عليها كل أحد من التوحيد ، وأنه لا متصرف إلا الله سبحانه المركوز في طبائع العالم .وروي ذلك عن ابن عباس ، ومن حديث أخرجه أبو داود والنسائي وغيرهما عن سعد بن أبي وقاص قال:لما كان يوم الفتح فر عكرمة بن أبي جهل فركب البحر فأصابتهم عاصف فقال أصحاب السفينة لأهل السفينة:أخلصوا ، فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئا ، فقال عكرمة:لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص ما ينجيني في البر غيره ، اللهم إن لك عهدا إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمدا حتى أضع يدي في يده فلأجدنه عفوا كريما ، قال:فجاء فأسلم .وفي رواية ابن سعد عن أبي مليكة أن عكرمة لما ركب السفينة وأخذتهم الريح فجعلوا يدعون الله تعالى يوحدونه قال:ما هذا ؟ فقالو:ا هذا مكان لا ينفع فيه إلا الله تعالى ، قال:فهذا إله محمد صلى الله عليه وسلم الذي يدعونا إليه ، فارجعوا بنا فرجع وأسلم .
وظاهر الآية أنه ليس المراد تخصيص الدعاء فقط به سبحانه ، بل تخصيص العبادة به تعالى أيضا ؛ لأنهم بمجرد ذلك لا يكونون مخلصين له الدين ، وأيا ما كان فالآية دالة على أن المشركين لا يدعون غيره تعالى في تلك الحال ، وأنت خبير بأن الناس اليوم إذا اعتراهم أمر خطير ، وخطب جسيم ، في بر أو بحر ، دعوا من لا يضر ولا ينفع ، ولا يرى ولا يسمع ، فمنهم من يدعو الخضر وإلياس ، ومنهم من ينادي أبا الخميس والعباس ، ومنهم من يستغيث بأحد الأئمة ، ومنهم من يضرع إلى شيخ من مشايخ الأمة ، ولا ترى فيهم أحدا يخص مولاه ، بتضرعه ودعاه ، ولا يكاد يمر له ببال ، أنه لو دعا الله تعالى وحده ينجو من هاتيك الأهوال ، فبالله تعالى عليك قل لي:أي الفريقين من هذه الحيثية أهدى سبيلا ، وأي الداعيين أقوم قيلا ، وإلى الله تعالى المشتكى من زمان عصفت فيه ريح الجهالة ، وتلاطمت أمواج الضلالة ، وخرقت سفينة الشريعة ، واتخذت الاستغاثة بغير الله تعالى للنجاة ذريعة ، وتعذر على العارفين الأمر بالمعروف ، وحالت دون النهي عن المنكر صنوف الحتوف اه .
أقول:يعني الشهاب الآلوسي -رحمه الله -:إن فشو هذا الشرك في الناس عامتهم ، وشيوخ البدع من علمائهم ، والمنافقين من حكامهم ، جعل نهي العارفين عنه ، وأمرهم بالتوحيد المحض من الأمور المتعذرة ، التي يخشى على المجاهر بها الحتوف والهلكة .ونحن ما أمكننا هذه المجاهرة في مصر إلا بما رسخ فيها من الحرية المطلقة بتفرنج الحكومة .ولما جهرتُ بها أول مرة في درس عام بالمسجد الحسيني سنة 1316 هاج عليّ الناس هيجة شؤمى ، وحاول بعضهم أن يقتلني جهرا ، فما يقول شيخ الأزهر ومحررو مجلة المشيخة ( نور الإسلام ) في السيد الآلوسي وفي السيد حسن صديق ؟ لا يبعد أن تطعن هذه المجلة في دينهما وعقيدتهما كما طعنت على دين الإمام الشوكاني في جزئها الذي صدر أثناء كتابتنا لتفسير هذه الآية .
اهتداء بارج إنكليزي بهذه الآية وأمثالها
ساق الله تعالى نسخة من ترجمة القرآن العظيم باللغة الإنكليزية إلى بارج من ربابين البواخر الكبرى- التي تمخر البحار بين إنكلترة والهند - فرأى فيها ترجمة هذه الآية ، فراعته بلاغة وصفها لطغيان البحر واصطخابه ، وما تفعله الرياح الموسمية العاتية بالبواخر والبوارج العظيمة في المحيط الهندي في فصل الصيف ، فطفق يتأمل سائر الآيات في وصف البحر ، والسفائن الكبرى فيه التي وجدت في هذا العصر ولم يكن لها نظير في عصر النبي صلى الله عليه وسل ،م كقوله تعالى:{ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ والْمَرْجَانُ فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَان ولَهُ الْجَوارِ الْمُنشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} [ الرحمن:19 24] ورأى أن المترجم الإنكليزي ينقل عن أشهر تفاسير القرآن لبعض علماء التفسير - التي ألفت بعد افتتاح العرب للمالك ، واستيلائهم على البحار- أنهم لم يكونوا يعرفون ما عرفه الإنكليز وغيرهم من بعدهم أن اللؤلؤ والمرجان يخرج من البحار الحلوة كما يخرج من البحار المالحة ، فتأولوا قوله تعالى:{ يخرج منها اللؤلؤ والمرجان} بأنه يخرج من مجتمعهما الصادق بأحدهما ؛ لأنه بزعمهم يخرج من البحر الملح فقط ، غافلين عن قوله تعالى:{ ومِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [ فاطر:12] ، ونبه نظره تشبيه الجواري المنشآت بالأعلام في هذه الآيةفي قوله تعالى:{ ومِنْ آيَاتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} [ الشورى:32 33] والعلم الجبل ، وأصلها أعلام الطريق العالية التي تعرف بها المسالك .
أطال الفكر هذا الربان الإنكليزي في هذه الآيات فتعمد أن يعرف بعض المسلمين في بعض ثغور الهند ، فسألهم:أتعلمون أن نبيكم محمدا صلى الله عليه وسلم سافر في البحار ؟ قالوا:لا ، إنه لم يرو عنه أنه سافر في البحر قط ، فاعتقد أن ما في القرآن مما ذكر لم يكن إلا بوحي من الله تعالى لهذا النبي العظيم ، وأعظم منه ما فيه من آيات التوحيد والتشريع والتهذيب ، التي هي أكمل وأقرب إلى العقل والفكرة من كل ما في التوراة والإنجيل ، فأسلم عن علم وبصيرة ، وظل زمنا طويلا يتعبد بما يفهمه من ترجمة القرآن ، حتى أتيح له ترك عمله في البحار ، فأقام في مصر وتعلم العربية وعاشر فضلاء المصريين ، وهو مستر عبد الله براون رحمه الله تعالى ، وأنا قد أدركته وعرفته ، ولا يزال في مصر من يعرفه ، وقد ضرب الأستاذ الإمام به المثل في صلاته التي كان يصليها في البحر بقدر ما يفهم من القرآن بكل خشوع وتوجه إلى الله تعالى ، في كلام له في روح الصلاة ومغزاها ، وصورتها وأركانها ، قال:قد كانت تلك الصلاة أقرب إلى مرضاة الله تعالى وقبوله من الصلاة الصورية التقليدية التي يمثلها من لا يخطر في قلوبهم فيها أنهم متوجهون إلى الله ، ومناجون له ، مع استشعار عظمته ووحدانيته الخ .