/م21
{ وإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ} هذه الشرطية منتظمة مع أختيها في الآيتين 12 و 15 في نسق واحد ، والذوق في أصل اللغة إدراك الطعم بالفم ، والمدرك له عصب خاص في اللسان ، واستعمل مجازا في إدراك غيره من الملائمات كالرحمة والنعمة ، والمؤلمات كالعذاب والنقمة ، والضراء الحالة من الضر المقابل للنفع ، ويقابلها السراء من السرور ، أي وإذا كشفنا ضراء مسّ الناس ألمها ، برحمة منا أذقناهم لذاتها على أتمها ، لأن الشعور بها عقب زوال ضدها يكون أتم وأكمل .
{ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا} إذا هذه تسمى الفجائية ، والجملة جواب للشرط .أي ما كان منهم إلا أنهم بادروا إلى المكر ، وأسرعوا بالفجائية به في مقام الشكر ، فإذا كانت الرحمة مطرا أحيا الأرض ، وأنبت الزرع ، ودر به الضرع ، بعد جدب وقحط أهلك الحرث والنسل ، قالوا:مطرنا بالأنواء ، وإذا كانت نجاة من هلكة وأعوزتهم أسبابها ، عللوها بالمصادفات ، وإذا كان سببها دعاء نبيهم أنكروا إكرام الله له وتأييده بها ، كما فعل فرعون وقومه عقب آيات موسى ، وكما فعل مشركو مكة إثر القحط الذي أصابهم بدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم ، ثم رفع عنهم بدعائه فما زادهم ذلك إلا كفرا وجحودا ، ومكرا وكنودا .
أخرج الشيخان من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن قريشا لما استعصوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف ، فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام والميتة من الجهد ، حتى جعل أحدهم يرى ما بينه وبين السماء كهيئة الدخان من الجوع ، فأنزل الله تعالى:{ فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [ الدخان:10 11] ، فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له:يا رسول الله استق لمضر ، فإنها قد هلكت فقال: "مضر ؟ "متعجبا ، وفي رواية فجاءه أبو سفيان فقال:يا محمد إنك جئت تأمرنا بصلة الرحم ، وإن قومك قد هلكوا فادع الله ، فدعا لهم فكشف الله عنهم العذاب ومطروا ، فعادوا إلى حالهم ومكرهم الأول الذي تقدم فيه قوله تعالى:{ وإذ يمكر ربك الذين كفروا}{[1708]} [ الأنفال:30] الآية ، وقد بينا في تفسيرها وتفسير ( 98 ) وآية ( 54 ) معنى المكر في اللغة ، وكونه حسنا وسيئا ، ومعنى إسناده إلى الله تعالى ، وخلاصته أن المكر عبارة عن التدبير الخفي الذي يفضي بالممكور به إلى ما لا يحتسبه ولا يتوقعه ، وأن مكره تعالى وهو تدبيره الذي يخفى على الناس إنما يكون بإقامة سننه ، وإتمام حكمه في نظام العالم ، وكله حق وعدل حسن ، ولكن ما يسوء الناس منه يسمونه شرا وسوءا ، وإن كان جزاء عدلا ، ويراجع تحقيقه في الجزأين 3 و9 من التفسير .
{ قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْراً} أي قل أيها الرسول لهؤلاء الذين يسرعون في المكر كما دلت عليه المفاجأة:إن الله تعالى أسرع مكرا منكم ، إذ سبق في تدبيره لأمور العالم وتقديره للجزاء على الأعمال قبل وقوعها أن يعاقبكم على مكركم في الدنيا قبل الآخرة ، وهو عالم به لا يخفى عليه شيء منه ، وأكد هذا بقوله:{ إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} يعني الحفظة من الملائكة الذين وكلهم الله تعالى بإحصاء أعمال الناس وكتبها للحساب عليها في الآخرة .وكتابة المكر عبارة عن كتابة متعلقة من الأعمال اللاتي كان هو الباعث عليها ، ويجوز أن تكتب نيتها وهي المعنى المصدري للمكر .
والجملة تتمة الجواب الذي لقنه الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بناء على أنه يبلغه عنه عز وجل بلفظه الموحي إليه لا بمعناه ، ولذلك يدخل في التبليغ لفظ"قل "وهو خطاب الله له صلى الله عليه وسلم مقوله الخاص بهم ، كقوله:{ قل يا أيها الكافرون} [ الكافرون:1] ، وأمثاله الكثيرة في القرآن ، بل أقول له:إنه صلى الله عليه وسلم بلغهم الآية برمتها:ما حكاه تعالى عنهم ، وما أمره أن يجيبهم به ، وقد يكون ذلك في ضمن السورة كلها لا وحده ، ومثل هذا يقال في أمثاله .
فعلم بهذا أنه ليس المراد أن يقول صلى الله عليه وسلم لهم كلمة:"أسرع مكرا "من قبل نفسه فيستشكل الالتفات فيها عن الغيبة إلى التكلم في"إن رسلنا "، بل هو جار على سنة القرآن فيه ، وهو أبلغ في تصوير تسخير الله تعالى للملائكة في كتابة الأعمال من التعبير بضمير الغيبة"إن رسله يكتبون "الخ ؛ لأن في ضمير الجمع من تصوير العظمة في هذا التدبير العظيم ، والنظام الدقيق ، ما يشعر به كل منله ذوق في هذه اللغة سيدة اللغات ، التي اعترف علماء اللغات من الإفرنج بأنها تفوق جميع لغاتهم ، في التعبير عن صفات الله تعالى وكماله وعظمته ، ومثل هذا الالتفات فيها قوله تعالى:{ قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي ولَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً} [ الكهف:109] .
وقرأ نافع ويعقوب ( يمكرون ) بالمثناة التحتية ، وفائدته الإعلام بأن ذلك شامل للغائبين كالحاضرين .
وقد فصلنا القول في كتابة الملائكة الحفظة لأعمال الناس ، وحكمتها في تفسير{ وهُو الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ويُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً} [ الأنعام:61] من سورة الأنعام ، وشرحنا قبلها مسألة كتابة مقادير الخلق كلها في تفسير الآية{ وعند مفاتح الغيب} [ الأنعام:59] منها ، فيراجع الموضوع كله في جزء التفسير السابع من شاء ، ومن اكتفى بالإجمال فحسبه الإيمان بأن الملائكة تكتب الأعمال كتابة غيبية لم يكلفنا الله تعالى معرفة صفتها ، وإنما كلفنا أن نؤمن بأن له نظاما حكيما في إحصائها ، لأجل مراقبتنا له فيها ، لنلتزم الحق والعدل والخير ونجتنب أضدادها .
ومن مباحث اللفظ في الآية أن اسم التفضيل ( أسرع ) فيها على أصله من الفعل الثلاثي:سرع كضخم وحسن سرعا وسرعة ، فهو سرع وسريع وسراع ، والمستعمل بكثرة الرباعي أسرع ، وفي اللسان أن سيبويه فرق بينهما فقال:أسرع طلب ذلك من نفسه وتكلفه كأنه أسرع المشي أي عجله ، وأما سرع فكأنها غريزة ، وأن ابن جني استعمل أسرع متعديا اه ، وجوز بعض النجاة كون اسم التفضيل من مثل أسرع مطلقا ، أو إذا لم تكن همزته للتعدية .